المنشورات

ذو الرمة ومي

أخبرنا محمد بن الحسين إجازة إن لم يكن سماعاً، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الأزدي ومحمد بن القاسم الأنباري قالا: حدثنا أحمد بن يحيى عن أبي زيد، حدثنا إسحق بن إبراهيم، حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك، شيخ منهم، قد أتى له مائة سنة، فقال: كان من أظرف الناس.
قال: كان آدم، خفيف العارضين، حسن المنظر، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته، وإذا واجهك لم تسأم حديثه وكلامه.
وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم: مسعود وهمام وخرواش، فكانوا يقولون القصيدة، فيزيد فيها الأبيات؛ فيغلب عليها، فتذهب له. فأتى يوماً، فقال لي: يا عصمة! إن مية منقرية، وبنو منقر أخبث حي، وأبصره بأثر وأعلمه بطريق، فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية؟ فقلت: نعم، عندي الجؤذر. قال: علي بها.
فركبناها جميعاً حتى أشرفنا على بيوت الحي، فإذا هم خلوف وإذا بيت مية خال، فملنا إليه فتقوض النساء نحونا، ونحو بيت مية، فطلعت علينا، فإذا هي جارية أملود، واردة الشعر، وإذا عليها سب أصفر، وقميص أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة! فقال: أنشدهن يا عصمة! فنظرت إليهن وأنشدتهن:
وَقَفتُ عَلى رَسمٍ لمَيّةَ نَاقَتي، ... فما زِلتُ أبكي عندَه وَأُخاطِبُه
وَأسقِيهِ حَتى كادَ مِمّا أبُثّهُ ... تُكَلّمُني أحجَارُهُ وَملاعبُه
حتى بلغت إلى قوله:
بكى وَامقٌ جاءَ الفرَاقُ وَلم يُجِلْ ... جَوَائِلَهَا أسرَارُهُ وَمَعَاتبُه
فقالت ظريفة ممن حضر: فليجل الآن! فنظرت إليها حتى أتيت على القصيدة إلى قوله:
إذا سَرَحتْ مِنْ حُبّ مَيٍّ سَوَارِحٌ ... عَلى القَلبِ آبَتهُ جَميعاً عَوَازِب
فقالت الظريفة منهن: قتلته قتلت. فقالت مي: ما أصحه وهنيئاً له! فتنفس ذو الرمة نفساً كاد من حره يطير شعر وجهه، ومضيت في الشعر حتى أتيت على قوله:
وَقد حَلَفتْ باللهِ مَيّةُ مَا الّذي ... أقُولُ لهَا إلاّ الّذي أنَا كَاذِبُه
إذاً فَرَمَاني اللهُ مِنْ حَيثُ لا أرَى، ... وَلا زَالَ في دَارِي عَدُوٌّ أُحَارِبُه
فقالت الظريفة: قتلته، قتلك الله. فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان!
ثم أتيت على الشعر حتى انتهيت إلى قولي:
إذَا رَاجَعتَكَ القَوْلَ مَيّةُ، أوْ بَدَالكَ الوَجهُ منها، أوْ نَضَا الدّرْعَ سالبُه
فَيَا لكَ مِنْ خَدٍّ أسِيلٍ وَمَنطِقٍ ... رَخِيمٍ، وَمِنْ خُلقٍ تَعَلّلَ جاذِبُه
فقالت تلك الظريفة: ها هذه، وهذا القول؛ قد راجعتك وقد واجهتها، فمن لك أن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مية، فقالت: قاتلك الله ما أعظم ما تجيئين به! فتحدثنا ساعة ثم قالت الظريفة: إن لهذين شأناً، فقمن بنا! فقمن وقمت معهن، فجلست بحيث أراهما، فجعلت تقول له: كذبت، فلبث طويلاً ثم أتاني ومعه قارورة فيها دهن، فقال: هذا دهن طيب أتحفتنا به مية، وهذه قلادة للجؤذر، والله لا أخرجتها من يدي أبداً. فكان يختلف إليها، حتى إذا انقضى الربيع، ودعا الناس الصيف أتاني فقال: يا عصمة! قد رحلت مي، فلم يبق إلا الآثار، فاذهب بنا ننظر إلى آثارهم، فخرجنا حتى انتهينا، فوقف وقال:
ألا يا اسلمي يا دَارَ ميّ عَلى البِلى، ... وَلا زَالَ مُنهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ القطرُ
فَإنْ لمْ تَكُوني غَيرَ شَامٍ بقَفرَةٍ، ... تَجُرّ بهَا الأذْيَالَ صَيْفِيّةٌ كُدرُ
فقلت له: ما بالك؟ فقال لي: يا عصمة! إني لجلد، وإن كان مني ما ترى. وكان آخر العهد به.









مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید