المنشورات
المحبان الوفيان
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، حدثني أبي، حدثنا عبيد الله بن محمد الهروي، حدثني أبي، حدثني صديق لي ثقة: أنه كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث مالاً جليلاً، وكان يعشق قينة، فأنفق عليها مالاً كثيراً ثم اشتراها، وكانت تحبه كما يحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس، فقالت له الجارية: يا هذا قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشاً؟ قال: وكان الفتى لشدة حبه الجارية وإحضاره الأستاذات ليزيدوها في صنعتها قد تعلم الضرب والغناء فخرج صالح الضرب والحذق فيهما، فشاور بعض معارفه فقال: ما أعرف لك معاشاً أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم، فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك، فأنف من ذلك، وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه، وأعلمها أن الموت أسهل عنده من هذا. فصبرت معه على الشدة مدة، ثم قالت له: قد رأيت لك رأياً. قال: قولي! قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما إن أردت أن تتجر به، أو تنفقه في ضيعة عشت عيشاً صالحاً، وتخلصت من هذه الشدة وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة، فإن رأيت هذا، فافعل.
فحملها إلى السوق، فكان أول من اعترضها فتىً هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاستامها، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عيناً. قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وأعطيت المال، ندمت واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل، فأخذت الدنانير في الكيس لا أدري أين أذهب لأن بيتي موحش منها، ووقع علي من اللطم والبكاء ما هوّسني.
فدخلت مسجداً، وجعلت أبكي وأفكر في ما أعمل، فغلبتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي، فانتبهت فزعاً، فإذا شاب قد أخذ الكيس، وهو يعدو، فقمت لأعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب في وتد مضروب في أرض المسجد، فما تخلصت من ذلك حتى غاب الرجل عن عيني، فبكيت ولطمت ونالني أمر أشد من الأمر الأول، وقلت: فارقت من أحب لأستغني بثمنه عن الصدقة، فقد صرت الآن فقيراً ومفارقاً.
فجئت إلى دجلة، فلففت وجهي بإزار كان على رأسي، ولم أكن أحسن العوم، فرميت نفسي في الماء لأغرق، فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي فأخرجوني، فسألوني عن أمري، فأخبرتهم، فمن بين راحم ومستجهل إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: ما هذا؟ ذهب مالك فكان ماذا حتى تتلف نفسك، أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم! ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل، وثق بالله تعالى. أين منزلك؟ قم معي إليه.
فما فارقني حملني إلى منزلي وأدخلني إليه، وما زال يؤنسني ويعظني إلى أن رأى مني السكون، فشكرته، وانصرف، فكدت أقتل نفسي لشدة وحشتي للجارية، وأظلم منزلي في وجهي، وذكرت النار والآخرة، فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء، فأخبرته خبري، فبكى رقةً لي، وأعطاني خمسين درهماً، وقال: اقبل رأيي! اخرج الساعة من بغداد، واجعل هذا نفقة إلى حيث تجد قلبك مساعدك على قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد وأدبك صالح، فاقصد بعض العمال واطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر أن يصرفك في شغل أو يجعلك محرراً بين يديه وتعيش أنت معه، ولعل الله أن يصنع لك.
فعملت على هذا، وجئت إلى اللتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسطاً، وكان لي بها أقارب فأجعلهم ذريعةً إلى التصرف مع عاملها، فحين جئت إلى اللتبيين، إذا بزلال مقدم، وإذا خزانة كبيرة وقماش فاخر كثير ينقل إلى الخزانة والزلال، فسألت عن ملاح يحملني إلى واسط، فقال لي أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك في هذا إلى واسط بدرهمين. ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكننا حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس من ثياب الملاحين، وتجلس معنا، كأنك واحد منا.
فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعهما إلى واسط، فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت جبةً من جباب الملاحين، وبعت تلك الثياب التي علي، وأضفت ثمنها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزاً وأدماً وجلست في الزلال، فما كان إلا ساعة، حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فسهل علي ما كان بي وما أنا فيه، وقلت: أراها وأسمع غناءها من هاهنا إلى البصرة، واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة، وطمعت في أن أدخل مولاها، وأصير أحد ندمائه، وقلت: لا تخليني هي من المواد، فإني واثق بها.
فلم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها راكباً ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال، وانحدرنا، فلما صرنا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو. وصعدت فجلست معه، فدبرت أمره وضبطت دخله، وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت إليه الأمانة.
فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً، وخرجه ناقصاً، فحمدني، وكنت معه إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره فدعاني إلى أن أتزوج بابنته ويشاركني في الدكان، ففعلت، ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان والحال تقوى إلا أني في خلال ذلك منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن، وكان البقال ربما شرب فيجذبني إلى مساعدته، فأمتنع وأظهر أن سبب ذلك حزن على موتى لي.
واستمرت بي الحال على هذا سنين كثيرة، فلما أن كان ذات يوم، رأيت قوماً يجتازون بجون ونبيذ اجتيازاً متصلاً، فسألت عن ذلك، فقيل لي: اليوم يوم الشعانين ويخرج أهل الظرف واللعب بالنبيذ والطعام والقيان إلى الأبلّة فيرون النصارى، ويشربون ويتفرجون. فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أن أقف لأصحابي على خبر، فإن هذا من مظانهم، فقلت لحميي: أريد أن أنظر هذا المنظر، فقال: شأنك.
وأصلح لي طعاماً وشراباً، وسلم إلي غلاماً وسفينةً، فخرجت وأكلت في السفينة، وبدأت أشرب حتى وصلت إلى الأبلة، وأبصرت الناس، وابتدأوا ينصرفون، وانصرفت، فإذا أنا بالزلال بعينه في أوساط الناس سائراً في نهر الأبلّة، فتأملته، فإذا بأصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات، فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً، فصرت إليهم، فحين رأوني عرفوني وكبروا، وأخذوني إليهم، وقالوا: ويحك أنت حي! وعانقوني، وفرحوا بي وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها على أتم شرح، فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك سكرت، ووقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في هذا، فمزقت الجارية ثيابها، وكسرت عودها، وجزت شعرها وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا، ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل لك؟ فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من استخدامك معه في حال فقده أو سماع غنائك. فقالت: تمكنوني من القوت اليسير، ولبس الثياب السود، وأن أعمل قبراً في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب من الغناء، فمكناها من ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحين دخلت الدار ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني شهقت شهقة عظيمة، ما شككت في تلفها، واعتنقنا، فما افترقنا، ساعةً طويلة، ثم قال لي مولاها: قد وهبتها لك. فقلت: بل تعتقها، وتزوجني منها، كما وعدتني، ففعل ذلك ودفع إلينا ثياباً كثيرة وفرشاً، وقماشاً، وحمل إلي خمسمائة دينار، وقال: هذا مقدار ما أردت أن أجريه عليك في كل شهر، منذ أول يوم دخولي البصرة، وقد اجتمع هذا لهذه المدة، فخذه، والجائزة لك مستأنفة في كل شهر، وشيء آخر لكسوتك وكسوة الجارية؛ والشرط في المنادمة وسماع الجارية من وراء ستارة باق عليك، وقد وهبت لك الدار الفلانية.
قال: فجئت إليها، فإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطانيه فيها، والجارية، فجئت إلى البقال فحدثته حديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها، وأقمت على تلك الحال مع الهاشمي سنتين، فصلحت حالي، وصرت رب ضيعة ونعمة، وعادت حالي، وعدت إلى قريب مما كنت عليه، فأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)