المنشورات
مأساة بشر وهند
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الملك بن بشران قراءة عليه، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزيق في شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قراءة عليه، يوم الخميس لاثنتي عشرة من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا عمر بن عبد الحكم وجعفر بن عبد الله الوراق والقاسم بن الحسن عن أبي سعد عن أبيه قال: ذكر أنه كان في بدء الإسلام، وبعضهم يزيد على حديث بعض، شاب، وكان يقال له بشر، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من بني أسيد بن عبد العزى، وكان طريقه، إذا غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، أن يأخذ على جهينة، وإذا فتاة من جهينة، فنظرت إليه، فعشقته، وكان لها من الحسن والجمال حظ عظيم، وكان لها زوج يقال له سعد بن سعيد، فكانت تقعد كل غداة لبشر، حتى يجتاز بها، لينظر إليها، فلما أخذها حبه كتبت إليه هذه الأبيات:
تَمّرّ بِبَابي لَيسَ تَعلَمُ مَا الّذي ... أُعَالِجُ من شَوْقٍ إلَيكَ ومن جُهدِ
تَمُرّ رَخيّ البَالِ مِنْ لَوْعَةِ الهَوَى، ... وَأنتَ خليُّ الذّرْعِ ممّا بدا عِندي
فَدَيْتُكَ، فَانظُرْ نَحوَ بَابي نَظرَةً، ... فإنّكَ أهوَى النّاسِ كلِّهمِ عِندي
فَوَاللهِ لَوْ قصّرْتَ عَنّا فَلضمْ تَكُنْ ... تَمُرّ بِنا أصْبَحتُ لا شكّ في لحدِ
فأجابها الفتى يقول:
عَلَيكِ بتقوَى اللهِ والصّبرِ، إنّهُ ... نَهَى عَنْ فُجُورٍ بِالنّساءِ مُوَحِّدُ
وَصبراً لأمْرِ اللهِ لا تَقرَبي الّذِي، ... نَهَى اللهُ عنهُ، وَالنّبيُّ مُحَمّدُ
فَوَاللهِ لا آتي حَلِيلَةَ مُسْلِمٍ ... إلى أنْ أُدَلّى في القُبُورِ، وَأُفقَدُ
أُحَاذِرُ أنْ أصْلى جَحيماً، وَأن أُرَى ... صَرِيعاً لِنَارٍ حَرُّهَا يَتَوَقَّدُ
فَلا تَطمَعي في أنْ أزُورَكِ طَائِعاً، ... وَأنتِ لِغَيرِي، بِالخنَاءِ مُعَوَّدُ
فأجابته الفتاة تقول:
أمَرْتَ بتَقوَى اللهِ، وَالصّبرِ وَالتّقَى، ... فكَيفَ؟ وَما لي من سَبيلٍ إلى الصّبرِ
وَهَلْ تَستطيعُ الصّبرَ حَرّى حَزِينَةٌ ... مُعَذَّبَةٌ بِالحُبِّ مُوقَرَةُ الظّهرِ؟
وَوَاللهِ مَا أدعُوكَ يا حُبُّ للّذِي ... تَظُنّ، وَلَكِنْ للحَديثِ وَللشّعرِ
وَكيْ نَتَدَاوَى مَا تَرَاكَدَ داؤُهُ ... من الشوْقِ وَالحبّ الذي لكَ في صَدرِي
وَلَيتُ، فدتكَ النّفسُ، أبغيك مَحرمَا، ... وَمَا ذاكَ من شأني وَلا ذاكَ من أمرِي
وَمَا حاجَتي إلاّ الحَديثُ وَمَجلِسٌ ... يُسكّنُ دَمعاً يَستَهِلّ على النّحرِ
قال فأجابها الفتى:
مَنَعَ الزّيَارَةَ أنْ أزُورَكِ طَائِعاً، ... أخشَى الفَسادَ، إذا فَعَلتُ، فَنعتَدِي
أخشَى دُنُواً مِنكِ غَيرَ مُحَلَّلٍ، ... فَأكُونُ قَد خالَفتُ دِينَ مُحَمّدِ
فأخافُ أنْ يَهوَاكِ قَلبي شَارِفاً، ... فيكونَ حَتفي بالّذي كَسَبتْ يَدِي
فَالصّبرُ خيرُ عَزِيمَةٍ، فاستَعصِمي، ... وَإلى إِلهكِ ذي المَعارِجِ فاقصِدِي
وَإذا أتَتكِ وَسَاوِسٌ وَتَفَكّرٌ، ... وَتَذَكّرٌ، فلِكُلّ ذلكَ فَاطرُدِي
وَعَليكِ يَاسين، فإنّ بدَرْسِها ... تُنفى الهُمُومُ، وَذاكَ نَفسكِ عوّدي
فأجابته الفتاة وهي تقول:
لَعَمرُكَ ما ياسينُ تُغني مِنَ الهَوَى، ... وَقُرْبُكَ مِنْ ياسينَ أشهى إلى قلبي
فَدَعْ ذِكرَ ياسينَ، فَلَيسَ بنافعي، ... فإنيَ في غَمرِ الحَيَاةِ، وَفي كَرْبِ
تَحَرّجتَ عَنْ إتيَانِنَا، وَحَدِيثِنَا، ... فقَتليَ، إنْ فكّرتَ، من أكبرِ الذّنبِ
وَإتيَانُنَا أدنى إلى اللهِ زُلفةً، ... وَأحسَنُ مِنْ قَتلِ المُحِبّ بلا عَتبِ
قال: فلما قرأ بشر هذه الأبيات غضب غضباً شديداً، وحلف لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتاباً، فلما امتنع كتبت إليه تقول:
سألتُ رَبي، فقد أصَبحتَ لي شَجَناً، ... أن تُبتَلى بهَوَى مَنْ لا يُبَالِيكَا
حتى تّذوقَ الذي قد ذُقتُ من نَصَبٍ، ... وَتَطلُبَ الوَصلَ مِمّنْ لا يُؤاتيكَا
رَمَاكَ رَبّي بِحُمّاةٍ مُقَلقِلَةٍ، ... وَبامتِنَاعِ طَبيبٍ لا يُداوِيكَا
وَأنْ تَظَلّ بِصحرَاءٍ عَلى عَطَشٍ، ... وَتَطلُبَ المَاء َ مِمّن لَيسَ يَسقيكَا
فلما لج بشر وترك الممر ببابها، أرسلت إليه بوصيفة لها فأنشدته هذه الأبيات، فقال للوصيفة: لأمر ما لا أمر، فلما جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر، فكتبت وهي تقول:
كَفّرْ يمينَكَ! إنّ الذّنبَ مَغفورُ، ... وَاعلَمْ بأنّكَ كَفّرْتَ مأجورُ
لا تَطرُدنّ رَسُولي وَارْثَيَنّ لَهُ، ... إنّ الرّسُولَ قَليلُ الذّنبِ مأمُورُ
وَاعلَمْ بأني أبيتُ اللّيلَ سَاهِرَةً، ... وَدَمعُ عَيني عَلى خَدّيّ مَحدُورُ
أدعوهُ باسمِكَ في كَرْبٍ وَفي تعبٍ، ... وَأنتَ لاهٍ قَرِيرُ العَينِ مَسرُورُ
فلم لج بشر وترك الممر ببابها، اشتد عليها ذلك، ومرضت مرضاً شديداً، فبعث زوجها إلى الأطباء، فقالت: لا تبعث إلي طبيباً، فإني عرفت دائي، قهرني جنّي في مغتسلي، فقال لي: تحولي عن هذه الدار، فليس لك في جوارنا خير.
فقال لها زوجها: فما أهون هذا. فقالت: إني رأيت في منامي أن أسكن بطحاء تراب. قال: اسكني بنا حيث شئت، فاتخذت داراً على طريق بشر، فجعلت تنظر إليه، كل غداة، إذا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى برأت من مرضها، وعادت إلى حسنها، فقال لها زوجها: إني لأرجو أن يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن اسكني بطحاء تراب، فأكثري من الدعاء.
وكانت مع هند في الدار عجوز، فأفشت إليها أمرها، وشكت ما ابتليت به، وأخبرتها أنها خائفة إن علم بشر بمكانها أن يترك الممر في طريقه، ويأخذ طريقاً آخر، فقالت لها العجوز: لا تخافي، فإني أعلم لك أمر الفتى كله، وإن شئت أقعدتك معه، ولا يشعر بمكانك. قالت: ليت ذاك قد كان.
فقعدت العجوز على باب الدار، فلما أقبل بشر قالت له العجوز: يا فتى؟ هل لك أن تكتب لي كتاباً إلى ابن لي بالعراق؟ قال بشر: نعم! فقعد يكتب، والعجوز تملي عليه وهند تسمع كلامهما، فلما فرغ بشر قالت العجوز لبشر: يا فتى! إني لأظنك مسحوراً، قال بشر: وما أعلمك بذلك؟ قالت له: ما قلت لك حتى علمت، فما الذي تهم؟ قال لها: إني كنت أمر على جهينة، وإن قوماً منهم كانوا يرسلون إلي ويدعونني إلى أنفسهم، ولست آمنهم أن يكونوا قد أضمروا لي شراً. قالت له العجوز: انصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك.
فلما انصرف دخلت إلى هند فقالت: هل سمعت ما قال؟ قالت: نعم!
قالت: ابشري، فإني أراه فتىً حدثاً، لا عهد له بالنساء، ومتى ما أتى وزينتك هنيئةً وطيبتك، وأدخلتك عليه، غلبت شهوته وهواه دينه، فانظري يخرج زوجك إلى القرية، فأخبريني.
فسألت هند زوجها، فأخبرها أنه خارج يوم كذا وكذا، وأخبرت هند العجوز، وواعدت بشراً ميعاداً، لتنظر له في نجمه، فلما كان في ذلك الوقت جاء بشر إلى العجوز، فقالت: إني شاكية لست أقدر أن أجعل النشرة. ولكن بيتي أستر عليك، فدخل معها البيت، وجاءت هند خلفها، فدخلت البيت على بشر، فلما دخلت خرجت العجوز، فأغلقت الباب عليهما، وقدم زوج هند من الخروج في ذلك اليوم إلى الضيعة فجاء حتى دخل داره، فوجد مع امرأته رجلاً في البيت، فطلقها، ولبب بالفتى فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا نبي الله! سليمان هذا بأي حق دخل داري، وجامع زوجتي، فبكى بشر، وقال: والله يا رسول الله ما كذبتك منذ صدقتك، وما كفرت بالله منذ آمنت بك، ولا زنيت منذ شهدت أن لا إله إلا الله، فقص على النبي صلى الله عليه وآله، قصته.
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى العجوز وهند، فأحضرهما، فأقرتا بين يديه، فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق. ثم قال لهند: استغفري لذنبك، وأدب العجوز، وقال لها: أنت رأس الخطيئة، فرجع بشر إلى منزله، وهند إلى منزلها، فهاج بشر حب هند، فسكت حتى إذا قضت عدتها بعث إليها يخطبها، فقالت: لا والله لا يتزوجني وهو قد فضحني عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم مرض من حبها، وعاد إليها الرسول، فقال: إنه مريض، وإنك إن لم تفعلي ليموتن، فقالت: أماته الله، فطال ما أمرضني.
قال: ومرض بشر فاشتد مرضه وبلغ أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا إليه يعودونه، فقال بعضهم: أنا أرجو أن يعذب الله هنداً، وأنشأ يقول:
إلهيَ إني قد بُليتُ مِنَ الهَوَى ... وَاصبحتُ يا ذا العرْشِ في أشغلِ الشغلِ
أُكابدُ نَفساً قَد تَوَلّى بها الهَوَى، ... وَقد مَلّ أخوَاني وَقَد مَلّني أهلي
وَقَدْ أيقَنَتْ نَفسِي بِأنّيَ هَالِكٌ ... بِهنْدٍ وَأنّي قَدْ وهَبتُ لهَا قَتلي
وَإنّي وَإنْ كانَتْ إليّ مُسِيئَةً، ... يَشُقّ عَليّ أنْ تُعَذَّبَ مِنْ أجلي
قال: فشهق شهقةً فمات، رحمه الله تعالى، وأقامت عليه أخته مأتماً، فقامت تندبه، فجاءت هند، وأخته تقول:
وَابِشرَاهُ من لَوْعَةِ الهَوى قد تولّى، ... وَابِشرَاهُ ذو الحاجاتِ لا تُقضَى
وَابِشرَاهُ شَبابُهُ مَا تَمَلّى، ... وَابِشرَاهُ صَحيحاً قَدْ تَوَلّى
وَابِشراهُ لِكتَابِهِ مَا أقْرأ، ... وَابِشرَاهُ بَينَ أصحَابِهِ لا يُرَى
وَابِشرَاهُ للضّيفِ مَا أقْرَى، ... وَابِشرَاهُ مُعَجِّلاً إلى الغُرَبَا
قال: فلما سمعت هند صرخت صرخةً، ووقعت ميتةً، رحمهما الله، وذهب بها فدفنت مع بشر، فلما مضت أيام جاءت العجوز إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، أنا رأس الخطيئة، كما قلت، أنا التي كنت سبب الأمر، وقد خشيت أن لا تكون لي توبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استغفري لذنبك وتوبي، فإن الله تعالى يقبل التوبة النصوح.
آخر حديثهما.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)