المنشورات

تقريظ محمد بن ابي دؤاد

حفظك الله وأمتع بك.
أما بعد فإنّ جماعات أهل الحكمة قالوا: واجب على كلّ حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبيّن أسباب الأمور ويمّهد لعواقبها. فإنّما حمدت العلماء بحسن التثبّت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأمّا معرفة الأمور عند تكشّفها وما يظهر من خفيّاتها فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.
وإنّي عرفتك- أكرمك الله- في أيام الحداثة، وحيث سلطان اللهو المخلق للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيّفين للدّين والمروءة مستول على لداتك فاختبرت أنت وهم [ففقتهم] ببسطة المقدرة وحميّا الحداثة، وطول الجدة، مع ما تقدّمتهم فيه من الوسامة في الصّورة، والجمال في الهيئة.
وهذه كلّها أسباب [تكاد أن] توجب الانقياد للهوى، ولجج من المهالك لا يسلم منها إلّا المنقطع القرين في صحّة الفطرة، وكمال العقل. فاستعبدتهم الشّهوات حتى أعطوها أزمّة أديانهم، وسلّطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذلّ العدم وفقد عزّ الغنى في العاجل، والنّدامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك، أوحديّا في عصرك، حكّمت وكيل الله عندك- وهو عقلك- على هواك، وألقيت إليه أزمّة أمرك، فسلك بك طريق السّلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذّات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشّهوات أكثر مما نالوا، وصرّفك من صنوف النّعم أكثر مما تصرّفوا، وربط عليك من نعم الله التي خوّلك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو وتسليطهم الهوى [على أنفسهم] ، فخاض بهم سبل تلك اللّجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدّين، وافر المروءة، نقيّ العرض، كثير الثّراء، بيّن الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى الله تعالى أكثر من ميله إلى هواه.
فلم أزل [أبقاك الله] في أحوالك تلك كلّها بفضيلتك عارفا، ولك بنعم الله عندك غابطا، أرى ظواهر أمورك المحمودة فتدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فتزيدني رغبة في الاتّصال بك، ارتيادا مني لموضع الخيرة في الأخوّة، والتماسا لإصابة الاصطفاء في المودّة، وتخيّرا لمستودع الرّجاء في النّائبة.
فلما محضتك الخبرة، وكشفك الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التّجارب بالتّقدمة، وشهدت لك قلوب العامّة بالقبول والمحبّة، وقطع الله عذر كلّ من كان يطلب الاتّصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتّصال بحبلك، ومتتّ بحرمة الأدب وذمام كرمك. وكان من نعمة الله عندي أن جعل أبا عبد الله- حفظه الله- وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلا والمراد محمودا، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنيّة ويفوت الأمل، فوصلت إخاي بمودّتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصّة بك، تفضّلا لا مجازاة، وتطوّلا لا مكافأة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزّمان، واتخذتك للأحداث عدّة، ومن نوائب الدهر حصنا منيعا. 
فلمّا حزت المؤانسة، وتقلّبت من فضلك في صنوف النّعمة، وزاد بصري من مواهبك في السّرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة، فبلوت أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقلّ فيها تحفّظك، أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أمرك ونهيك، فأرى [من] استصغارك لعظيم النّعم التي تنعم بها، واستكثارك لقليل الشّكر من شاكريك، ما أعرف به [و] بما قد بلوت من غيرك، وما قد شهدت لي به التّجارب، أنّ ذلك منك طبع غير تكلّف.
هيهات! ما يكاد ذو التكلّف أن يخفى على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفّحين. فزادتني المؤانسة فيك رغبة، وطول العشرة لك محبّة، وامتحاني أفاعيلك لك تفضيلا، وبطاعتك دينونة.
وكان من تمام شكري لربّي وليّ كلّ نعمة، والمبتدىء بكلّ إحسان، الشكر لك والقيام بمكافأتك بما أمكن من قول وفعل، لأنّ الله تبارك وتعالى نظم الشّكر له بالشّكر لذي النّعمة من خلقه، وأبى أن يقبلهما إلّا معا، لأنّ أحدهما دليل على الآخر، وموصول به. فمن ضيّع شكر ذي نعمة من الخلق فأمر الله ضيّع، وبشاهده استخف.
ولقد جاء بذلك الخبر عن الطّاهر الصادق صلّى الله عليه وسلم، فقال صلّى الله عليه وسلم «من لم يشكر للناس لم يشكر لله» .
ولعمري إنّ ذلك لموجود في الفطرة، قائم في العقل: أنّ من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر، لأنّ الخلق يعطى بعضهم بعضا بالكلفة والمشقّة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلّة جمع بين الشّكر له والشكر لذوي النّعم من خلقه.
فلما وجبت عليّ الحجّة بشكرك،! وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصيّ ذلك، إلّا أنّي بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك.
موصول ذلك منّي عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها.
وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «من أودع عرفا فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره» .
ثم رأيت أن قد بقي عليّ أمر من الأمور يمكنني فيه برّك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغن، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله.
ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنّظر فيها، ومعلوم أنّ طول دراستها إنما هو تصفّح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيّين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتابا من الأدب، جامعا لعلم كثير من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الاشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفّقت اليه محاسن الأمم.
وعلمت أنّ ذلك من أعظم ما أبرك به، وأرجح ما أتقّرب به إليك.
وكان الذي حداني على ذلك ما رأيت الله قسم لك من الفهم والعقل، وركّب فيك من الطّبع الكريم.
وقد أجمعت الحكماء أنّ العقل المطبوع والكرم الغريزيّ لا يبلغان غاية الكمال إلّا بمعاونة العقل المكتسب. ومثلوا ذلك بالنّار والحطب، والمصباح والدّهن. وذلك أنّ العقل الغريزيّ آلة والمكتسب مادّة، وإنّما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
ورأيت كثيرا من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهودا قاربوا فيها الحقّ، وأحسنوا فيها الدلالة، إلّا أنّي رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعا لم يبيّنوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأمورا محمودة لم يدلّوا على أصولها.
فإن كان ما فعلوا من ذلك [روايات رووها عن أسلافهم، و] وراثات ورثوها عن أكابرهم، فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من استنبط.
وإن كانوا تركوا الدّلالة على علل الأمور التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظنّ بها. ولن تجدوا وصايا انبياء الله أبدا إلّا مبيّنة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبة معها الأمثال.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید