المنشورات

موضوع الكتاب

فألفّت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصف لك فيه الطباع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلّهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرّون، وفي المعرفة بما يتولّد عنها متّفقون.
ثمّ مبيّن لك كيف تفترق بهم الحالات، وتفاوت بهم المنازل، وما العلل التي يوجب بعضها بعضا، وما الشيء الذي يكون سببا لغيره، متى كان الأوّل كان ما بعده، وما السّبب الذي لا يكون الثّاني فيه إلا بالأوّل، وربّما كان الأول ولم يكن الثاني. وفرق ما بين الطّبع الأول وبين الاكتساب والعادة التي تصير طبعا ثانيا. ولم اختلف ذلك؟ وكيف دواعي قلوب الناس، وما منها يمتنعون عنه، وما منها لا يمتنعون منه. وحتى تؤنس بعد الوحشة، وتسكن بعد النّفار؟ وكيف يتأتّى لينقض ما فيهم من الطباع المذمومة حتّى تصرف إلى الشّيم المحمودة؟ وراسم لك في ذلك أصولا، ومبيّن لك مع كلّ أصل منها علّته وسببه.
وقد علمت أنّ في كثير من الحقّ مشبّهات لا تستبان إلّا بعد النظر، وهناك يختل الشّيطان أهل الغفلة، وذاك أنّه لا يجد سبيلا إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة.
فلم أدع من تلك المواضع الخفيّة موضعا إلّا أقمت لك بازاء كلّ شبهة منه دليلا، ومع كلّ خفيّ من الحقّ حجّة ظاهرة، تستنبط لها غوامض البرهان وتستبين بها دقاق الصّواب، وتستشفّ بها سرار القلوب، فتأتي ما تأتي عن بيّنة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشة إلى معرفة كثير مما يغيب عنك، إذا عرفت العلل والأسباب، حتّى كأنك مشاهد لضمير كل امريء لمعرفتك بطبعه وما ركّب عليه، وعوارض الأمور الداخلة عليه ثمّ، غير راض لك بالأصول حتّى أتقصى لك ما بلغه علمي من الفروع. ثم لا أرسم لك من ذلك [إلّا] الأمر المعقول في كل طبيعة، والموجود في فطر البرايا كلّها. فإن أحسنت [رعاية] ذلك وأقمته على حدوده، ونزّلته منازلة، كان عمرك- وإن قصرت أيامه- طويلا، وفارقت ما لا بدّ لك من فراقه محمودا، إن شاء الله.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید