اعلم أنّ الله جلّ ثناؤه خلق خلقه، ثمّ طبعهم على حبّ اجترار المنافع، ودفع المضارّ، وبغض ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبع مركّب، وجبلّة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان، لم يدّع غيره مدّع من الأوّلين والآخرين. وبقدر زيادة ذلك ونقصانه تزيد المحبّة والبغضاء، [فنقصانه] كزيادته تميل الطّبيعة معهما كميل كفّتي الميزان، قلّ ذلك أو كثر.
وهاتان جملتان داخل فيهما جميع محابّ العباد ومكارههم. والنّفس في طبعها حبّ الرّاحة والدّعة، والازدياد والعلوّ، والعزّ والغلبة، والاستطراف والتّنّوق وجميع ما تستلذ الحواسّ من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطّعوم الطّيّبة، والأصوات المونقة، والملامس اللّذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه.
فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غراز في الفطر، وكوامن في الطّبع، جبلّة ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنّها في بعض أكثر منها في بعض، ولا يعلم قدر القلّة فيه والكثرة إلا الذي دبّرهم.
فلمّا كانت هذه طباعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذّ لجميع حواسّهم، فتعلّقت به قلوبهم، وتطلّعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكّن لهم من الأرزاق المشتهاة في طباعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارّ. وإذا ذهبا كان ذلك سببا للفساد، وانقطاع التّناسل، وفناء الدّنيا وأهلها، لأنّ طبع النفس لا يسلس بعطيّة قليل ولا كثير مما حوته، حتّى تعوّض أكثر مما تعطي، إمّا عاجلا وإما آجلا مما تستلذّه حواسّها.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
تعليقات (0)