المنشورات

الرغبة والرهبة اساس السياسة

فعلم الله أنّهم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلّا بالتأديب، وأنّ التأديب ليس إلّا بالأمر والنّهي، [وأنّ الأمر والنهي] غير ناجعين فيهم إلّا بالترغيب والترهيب اللذين في طباعهم. فدعاهم بالتّرغيب إلى جنّته، وجعلها عوضا ممّا تركوا في جنب طاعته، وزجرهم بالتّرهيب بالنار عن معصيته، وخوّفهم بعقابها على ترك أمره. ولو تركهم جلّ ثناؤه والطّباع الأوّل جروا على سنن الفطرة، وعادة الشّيمة.
ثم أقام الرّغبة والرّهبة على حدود العدل، وموازين النّصفة، وعدّلهم تعديلا متّفقا، فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. 
ثم أخبر الله تبارك وتعالى أنّه غير داخل في تدبيره الخلل، ولا جائز عنده المحاباة، ليعمل كلّ عامل على ثقة ممّا وعده وأوعده، فتعلّقت قلوب العباد بالرغبة والرّهبة، فاطّرد التدبير، واستقامت السّياسة، لموافقتهما ما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة.
ثمّ جعل أكثر طاعته فيما تستثقل النفوس، وأكثر معصيته فيما تلذّ. ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «حفّت الجنة بالمكاره، والنّار بالشهوات» .
[يخبر أنّ الطريق إلى الجنّة احتمال المكاره، والطريق إلى النار اتباع الشهوات] .
فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم ولم ينقادوا لأمره إلا بما وصفت لك من الرّغبة والرّهبة، فأعجز الناس رأيا وأخطؤهم تدبيرا، وأجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمّل أو ظنّ أورجا أنّ أحدا من الخلق- فوقه أو دونه أو من نظرائه- يصلح له ضميره، أو يصحّ له بخلاف ما دبرهم الله عليه، فيما بينه وبينهم.
فالرّغبة والرّهبة أصلا كلّ تدبير، وعليهما مدار كلّ سياسة، عظمت أو صغرت. فاجعلهما مثالك الذي تحتذي عليه، وركنك الذي تستند إليه. واعلم أنّك إن أهملت ما وصفت لك عرّضت تدبيرك للاختلاط وإن آثرت الهوينا واتّكلت على الكفاة في الأمر الذي لا يجوز فيه إلّا نظرك، وزجّيت أمورك على رأي مدخول، وأصل غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكّم فيك عدوّك كان ذلك غاية أمنيّته، وشفاء غيظه.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید