المنشورات

العدل اساس السياسة

واعلم أنّ اجراءك الأمور مجاريها واستعمالك الأشياء على وجوهها، يجمع لك الفة القلوب، فيعاملك كلّ من عاملك بمودّة، أو أخذ أو إعطاء، وهو على ثقة من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور. 
واعلم أنّ أثرتك على غير النصيحة والشّفقة، والحرمة والكفاية، يوجب [لك] المباعدة وقلّة الثقة ممن آثرته أو آثرت عليه.
فاعرف لأهل البلاء- ممّن جرت بينك وبينه مودّق أو حرمه، ممن فوقك أو دونك أو نظرائك- أقدارهم ومنازلهم. ثمّ لتكن امورك معهم على قدر البلاء والاستحقاق، ولا تؤثر في ذلك أحدا لهوى، فإنّ الأثرة على الهوى توجب السّخطة، وتوجب استصغار عظيم النّعمة، ويمحق بها الإفضال، وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت ومن آثرت عليه.
أما من آثرت فإنّه يعلم أنّك لم تؤثره باستحاق بل لهوى، فهو مترقّب أن ينتقل هواك إلى غيره، فتحول أثرتك حيث مال هواك. فهو مدخول القلب في مودّتك، غير آمن لتغيّرك.
وأمّا من آثرت عليه بعد الاستحقاق منه فقد جعلت له السبيل إلى الطّعن عليك، وأعطيته الحجّة على نفسك. فكلّ من يعمل على غير ثقة عاد ما أراد به النّفع ضررا والإصلاح [فيه] فسادا.
وربّما آثر الرجل المرء من إخوانه بالعطية السنيّة على بلاء أبلاه، فيعضم قدرها عنده حتّى لعلّه تطيب نفسه ببذل ماله ودمه دونه. فإن أعطى من أبى كبلائه وكانت له مثل دالّته، أكثر ممّا أعطاه، انتقل كلّ محمود من ذلك مذموما، وكل مستحسن مستقبحا. وكذلك الأمر في العقوبة، يجريان مجرى واحدا.
فاجعل العدل والنّصفة في الثّواب والعقاب حاكما بينك وبين إخوانك، فمن قدّمت منهم فقدّمه على الاستحقاق، وبصحة النّيّة في مودته، وخلوص نصيحته لك ممّا قد بلوت من أخلاقه وشيمه، وعلمت بتجربتك له، أنّه يعلم أنّ صلاحه موصول بصلاحك، وعطبه كائن مع عطبك، ففوّض الأمر إليه، وأشركه في خواصّ أمورك وخفيّ أسرارك، ثمّ أعرف قدره في مجلسك ومحاورتك ومعاملتك، في كلّ حالاتك ومزاولاتك في خلواتك معه، وبحضرة جلسائك، فإنّ ذلك زيادة في نيته، وداعية لمن دونه إلى التقرب إليك بمثل نصيحته.
فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يضرب بحرمة ويمتّ بدالّة، يطلب المكافأة بأكثر ممّا يستوجب، فدعاك الكرم والحيا إلى تفضيله على من [هو] أحقّ منه، إمّا تخوّفا من لسانه، أو مداراة لغيره، فلا تدع الأعتذار إلى من فوقه من أهل البلاء والنّصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم، فإنّ أهل خاصّتك والمؤمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهيننّ بشيء من أمورهم، فإنّ الرّجل قد يترك الشىء من ذلك اتّكالا على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينموه حتّى يولّد ضغنا ويحول عداوة.
فتحفّظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك.
وستجد في من يتّصل بك من يغلبه إفراط الحرص وحميّا الشّره، ولين جانبك له، على أن ينقم العافية، ويطلب اللّحوق بمنازل من ليس هو مثله، ولا له مثل دالّته، فتلقاه لما تصنع به مستقلّا، ولمعروفك مستصغرا. وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه أمره. فاعرف طرائقهم وشيمهم، وداو كلّ من لا بدّ لك من معاشرته بالدواء الذي هو أنجع فيه، إن لينا فلينا، وإن شدّة فشدّة، فقد قيل في المثل:
من لا يؤدّبه الجميل ففي عقوبته صلاحه وقد قال بعض الحكماء:
«ليس بحكيم من لم يعاشر من لا يجد من معاشرته بدّا، بالعدل والنّصفة، حتّى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا» .













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید