المنشورات

أجناس الناس

واعلم أنّك ستصحب من الناس أجناسا متفرّقة حالاتهم، متفاوتة منازلهم، وكلّهم بك إليه حاجة، وكلّ طائفة تسدّ عنك كثيرا من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلّهم مجتمعون على نصيحتك والشّفقة عليك. فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، [ومنهم من تريده للحفظ والأمانة] ، ومنهم من تريده للشّدّة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكلّ يسدّ مسدّه على حياله. وقد قيل في الحكمة: «إنّ الخلال تنفع حيث لا ينفع السّيف» .
ولا تخلينّ أحدا منهم- عظم قدره أو صغرت منزلته- من عنايتك وتعهّدك بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة؛ ليعلموا أنّهم منك بمرأى ومسمع. ثمّ لا تجوزنّ بأحد منهم حدّه، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتّسق لك أمره.
واعلم أنّه سيمرّ بك في معاملات الناس حالات تحتاج فيها إلى مداراة أصناف الناس وطبقاتهم، يبلغ بك غاية الفضيلة فيها، وكمال العقل والأدب منها، أن تسالم أهلها وتملك نفسك عن هواها، وتكفّ من جماحها، بالأمر الذي لا يحرجك في دينك ولا عرضك ولا بدنك، بل يفيدك عزّ الحلم، وهيبة الوقار. وهي أمور مختلفة، تجمعها حال واحدة.
منها: أن تأتي محفلا فيه جمع من الناس، فتجلس منه دون الموضع الذي تستحقّه حتى يكون أهله [الذين] يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك.
ومنها: أن يفيض القوم في حديث، عندك منه مثل ما عندهم أو أفضل، فيتنافسون في إظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحدا منهم، وإن أمسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنّك ممتنّ عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك.
ومنها: أن يتمارى جلساؤك- والمراء نتاج اللّجاجة وثمرة أصلها الحميّة- فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم إليك، ومعوّلهم عليك.
واعلم أنّ طبع النّفوس- إذ كان على حسب العلوّ والغلبة- أنّ في تركيبها بغض من استطال عليها. فاستدع محّبة العامّة بالتّواضع، ومودّة الأخلّاء بالمؤانسة والاستشارة، والثّقة والطّمأنينة.
واعلم أنّ الذي تعامل به صديقك هو ضدّ ما تعامل به عدوّك. فالصّديق وجه معاملته المسالمة، والعدوّ وجه معاملته المداراة والمواربة، هما ضدّان يتنافيان، يفسد هذا ما أصلح هذا، وكلّما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير. فلا تسلم بالمواربة صداقة، ولا تظفر بالعدوّ مع الاستسلام إليه. فضع الثّقة موضعها، وأقم الحذر مقامه، وأسرع إلى التفهّم بالثّقة، ولا تبادر إلى التّصديق، ولا سيّما بالمحال من الأمور.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید