المنشورات
معرفة الأمور الغائبة
واعلم أنّ كلّ علم بغائب، كائنا ما كان، إنّما يصاب من وجوه ثلاثة لا رابع لها، ولا سبيل لك ولا لغيرك إلى غاية الإحاطات؛ لاستئثار الله بها. ولن تهنأ بعيش مع شدّة التحرّز، ولن يتّسق لك أمر مع التضييع. فاعرف أقدار ذلك.
فما غاب عنك مما قد رآه غيرك ممّا يدرك بالعيان، فسبيل العلم به الأخبار المتواترة، التي يحملها الوليّ والعدوّ، والصّالح والطّالح، المستفيضة في الناس، فتلك لا كلفة على سامعها من العلم بتصديقها. فهذا الوجه يستوي فيه العالم والجاهل.
وقد يجيء خبر أخصّ من هذا إلّا أنّه لا يعرف إلّا بالسّؤال عنه، والمفاجأة لأهله، كقوم نقلوا خبرا، ومثلك يحيط علمه أنّ مثلهم في تفاوت أحوالهم، وتباعدهم من التّعارف، لا يمكن في مثله التّواطؤ وإن جهل ذلك أكثر الناس.
وفي مثل هذا الخبر يمتنع الكذب، ولا يتهيّأ الاتفاق فيه على الباطل.
وقد يجيء خبر أخصّ من هذا، يحمله الرجل والرجلان ممن يجوز أن يصدق ويجوز أن يكذب، فصدق هذا الخبر في قلبك إنّما هو بحسن الظّنّ بالمخبر، والثّقة بعدالته. ولن يقوم هذا [الخبر] من قلبك ولا قلب غيرك مقام الخبرين الأوّلين [أبدا] . ولو كان ذلك كذلك بطل التصنّع بالدّين واستوى الظاهر والباطن من العالمين.
ولما أن كان موجودا في العقول أنّه قد يفتّش بعض الأمناء عن خيانة، وبعض الصّادقين عن كذب، وأنّ مثل الخبرين الأوّلين لم يتعقّب الناس في مثلهما كذبا قطّ، علم أنّ الخبر إذا جاء من مثلهما جاء مجيء اليقين، وأنّ ما علم من خبر الواحد فإنّما هو بحسن الظنّ والائتمان.
فهذه الأخبار عن الأمور التي تدركها الأبصار.
فأمّا العلم بما غاب مما لا يدركه أحد بعيان، مثل سرائر القلوب وما أشبهها، فإنّما يدرك علمها بآثار أفاعيلها وبالغالب من أمورها، على غير إحاطة كإحاطة الله بها.
وأوّل العلم بكلّ غائب الظّنون، والظّنون إنّما تقع في القلوب بالدّلائل، فكلّما زاد الدليل قوي الظنّ حتّى ينتهي إلى غاية تزول معها الشكوك عن القلوب؛ وذلك لكثرة الدلائل، [ولترادفها] .
فهذا غاية علم العبادة بالأمور الغائبة.
فمن عرف ما طبع عليه الخلق وجرت به عاداتهم، وعرف أسباب اتّصالهم واتّصاله بهم، وتقصّى علل ذلك، كان خليقا- إن لم يحط بعلم ما في قلوبهم- أن يقع من الإحاطة قريبا.
واعلم أن المقادير ربّما جرت بخلاف ما تقدّر الحكماء، فنال [بها] الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر. فلا يدعونّك ما ترى من ذلك إلى التّضييع والاتّكال على مثل تلك الحال؛ فإنّ الحكماء قد أجمعت أنّ من أخذ بالحزم وقدّم الحذر، فجاءت المقادير بخلاف ما قدّر، كان عندهم أحمد رأيا وأوجب عذرا، ممّن عمل بالتفريط وإن اتّفقت له الأمور على ما أراد.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)