المنشورات
الخلال المذمومة
فاحذر ذلك أشدّ الحذر. واعلم أنّ الحكماء لم تذم شيئا ذمّها أربع خلال:
الكذب فإنّه جماع كلّ شرّ. وقد قالوا: لم يكذب أحد قطّ إلّا لصغر قدر نفسه عنده.
والغضب فإنّه لؤم وسوء مقدرة؛ وذاك أنّ الغضب ثمرة لخلاف ما تهوى النفس، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممّن فوقه أغضى وسمّى ذلك حزنا، وإن جاءه ذلك ممّن دونه لؤم النّفس وسوء الطّباع على الاستطالة بالغضب، والمقدرة والبسطة على البطش.
والجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها؛ فإنّهم لم يجعلوا لصاحب الجزع في مثل هذا عذرا، لما يتعجّل من غمّ الجزع مع علمه بفوت المجزوع عليه.
وزعموا أن ذلك من إفراط الشّره، وأنّ أصل الشّره والحسد واحد وإن افترق فرعاهما.
وذمّوا الحسد كذمّهم الجزع، لما يتعجّل صاحبه من ثقل الاغتمام، وكلفة مقاساة الاهتمام، من غير أن يجدي عليه شيئا. فالحسد اغتمام، والغدر لؤم.
وقال بعض الحكماء: «الحسد خلق دنيء، ومن دناءته أنّه يبدأ بالأقرب فالأقرب» . وزعموا أنّه لم يغدر غادر قطّ إلّا لصغر همّته عن الوفاء، وخمول قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وبقدر ما ذمّت الحكماء هذه الأخلاق الأربعة، فكذلك حمدت أضدادها من الأخلاق، فأكثرت في تفضيلها الأقاويل، وضربت فيها الأمثال، وزعمت أنّها أصل لكل كرم، وجماع لكل خير، وأنّ بها تنال جسام الأمور في الدّنيا والدين.
فاجعل هذه الأخلاق إماما لك، ومثلا بين عينيك، ورض عليها نفسك، وحكّمها في أمرك، تفز بالرّاحة في العاجل، والكرامة في الآجل.
والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة.
والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمّن هو دونك. والصّدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرّك. والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه.
فإنّ من عرف بالصّدق صار الناس له أتباعا، ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبّهة الجلالة، ومن عرف بالوفاء استنامت بالثّقة به الجماعات ومن استعزّ بالصبر نال جسيمات الأمور.
ولعمري ما غلطت الحكماء حين سمّتها أركان الدّين والدّنيا.
فالصّدق والوفاء توأمان، والصّبر والحلم توأمان، فهنّ تمام كلّ دين، وصلاح كلّ دنيا. وأضدادهنّ سبب كلّ فرقة، وأصل كلّ فساد.
واحذر خصلة رأيت الناس قد استهانوا بها، وضيّعوا النظر فيها، مع اشتمالها على الفساد، وقدحها البغضاء في القلوب، والعداوة بين الأودّاء:
المفاخرة بالأنساب؛ فإنّه لم يغلط فيها عاقل قطّ،! مع اجتماع الإنس جميعا على الصورة وإقرارهم جميعا بتفرّق الأمور المحمودة والمذمومة من الجمال والدّمامة، واللّؤم والكرم، والجبن والشّجاعة، في كلّ حين، وانتقالها من أمّة إلى أمة، ووجود كلّ محمود ومذموم في أهل كلّ جنس من الآدميّين. وهذا غير مدفوع عند الجميع.
فلا تجعلنّ له من عقلك نصيبا، ولا من لسانك حظّا، تسلم بذلك على النّاس أجمعين، مع السّلامة في الدين.
واعلم أنّك موسوم بسيما من قارنت، ومنسوب إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرّز من دخلاء السّوء، ومجالسة أهل الرّيب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطّرت لك فيه الأقاويل، فقالوا: «المرء حيث يجعل نفسه» ، وقالوا: «يظنّ بالمرء ما ظنّ بقرينه» ، وقالوا: «المرء بشكله، والمرء بأليفه» .
ولن تقدر على التحرّز من جماعة الناس، ولكن أقلّ المؤانسة إلّا بأهل البراءة من كلّ دنس. واعلم أنّ المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف، وإن كان بين ذلك كثير من أفعاله ألغاه الناس وحكموا عليه بالغالب من أمره.
فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفاعيلك كلّ ما تحمده العوامّ ولا تذمّه الجماعات، فإنّ ذلك يعفّي على كلّ خلل إن كان.
فبادر ألسنة الناس فاشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كلّ شيّء سراع، واستظهر على من دونك بالتّفضّل، [وعلى نظرائك] بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال. تأخذ بوثائق الأمور، وأزمّة التدبير.
واعلم أنّ كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطّراحه كلّه دليل على قلّة الاكثرات لأمر الصّديق. فكن فيه بين أمرين: عاتبه فيما تشتركان في نفعه وضرّه وذلك في الهيّنات، وتجاف له عن بعض غفلاته تسلم لك ناحيته. وبحسب ذلك فكن في زيارته، فإنّ الإلحاح في الزّيارة يذهب بالبهاء، وربّما أورث الملالة؛ وطول الهجران يعقب الجفوة، ويحلّ عقدة الإخاء، ويجعل صاحبه مدرجة للقطيعة وقد قال الشاعر:
إذا ما شئت أن تسلى حبيبا ... فأكثر دونه عدد اللّيالي
فما يسلي حبيبك مثل نأي ... ولا يبلي جديدك كابتذال
[وزر غبّا إذا أحببت خلّا ... فتحظى بالوداد مع اتصال]
واقتصد في مزاحك؛ فإنّ الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجرّىء عليك أهل الدّناءة. وإنّ التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين. فإن مزحت فلا تمزح بالذي يسوء معاشريك.
وأنا أوصيك بخلق قلّ من رأيته يتخلّق به، وذاك أنّ محمله شديد، ومرتقاه صعب، وبسبب ذلك يورث الشّرف وحميد الذّكر: ألّا يحدث لك انحطاط من حطّت الدّنيا من إخوانك استهانة به، ولا لحقّه إضاعة، ولما كنت تعلم من قدره استصغارا؛ بل إن زرته قليلا كان أشرف لك، وأعطف للقلوب عليك. ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذلّلا وإيثارا له على نظرائه في الحفظ والإكرام؛ بل لو انقبضت عنه كان مادحك أكثر من ذامّك، وكان هو أولى بالتعطّف عليك، إلّا أن يكون مسلّطا تخاف شداه ومعرّته، وترجو عنده جرّ منفعة لصديق، أو دفع مضرّة عنه، أو كبتا لعدو وإنزال هوان به؛ فإنّ السّلطان وخيلاءه وزهوه يحتمل فيه ما لا يجوز في غيره، ويعذر فيه ما لا يعذر في سواه.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)