المنشورات

إمتداح الذات

واعلم أنّ نشر محاسنك لا يليق بك، ولا يقبل منك إلّا إذا كان القول لها على ألسن أهل المروءات، وذوي الصّدق والوفاء، ومن ينجع قوله في القلوب ممّن يستنام إلى قوله، ويصدّق خبره، وممن إن قال صدق، أو مدح اقتصد، يثني بقدر البلاء، فإنّ إشراف [3] الثّناء على قدر النّعمة يولّد في القلوب التكذيب، ويدلّ على طلب المزايد.
فأمّا ثناء المادحين لك في وجهك، فإنّما تلك أسواق أقاموها للأرباح، وساهلوك في المبايعة، ولم يكن في الثّناء عليهم كلفة، لكساد أقاويلهم عند الناس. أولئك الصادّون عن طرق المكارم، والمثبّطون عن ابتناء المعالي.
فارتد لنعمك مغرسا تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهب نفقتك ضياعا، إمّا لعاجل تقدّمه، أو لآجل ثناء تنتفع به.
ولن تعدم أن يفجأك في بعض أحوالك حقوق تبهظك، وأحوال تفدحك، وأمور كلّها تتقسّم عنايتك، وفي التثبّت في مثلها تعرف فضيلتك، فلا تستقبلها بالتضجّع وتفتير الرأي، وابدأ منها بأعظمها منفعة، وأشدّها خوف ضرر. وكل ما أعجزك إلى الكفاة، واعتذر من تقصير إن كان؛ فإنّ الاعتذار يكسر حميّا اللائمة، ويردع شذاة الشّرّة.
ثمّ تلاف بعد انكشاف ذلك عنك ما فاتك، واجهد الجهد كلّه أن تكون مخارج الحقوق اللازمة لك من عندك سهلة، موصولة لأصحابها ببشرك وطلاقة وجهك؛ فقد زعمت الحكماء أنّ القليل مع طلاقة الوجه أوقع بقلوب ذوي المروءات من الكثير مع العبوس والانقباض.
وقد قال بعض الحكماء: «غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبّون ويحرموا، أحبّ إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا» .
[وما أبعدوا عن الحق] ولا يدعونّك كفر كافر لبعض نعمك ممن آثر هواه على دينه ومروءته، أو غدرة غادر تصنّع لك وختلك عن مالك، أن تزهد في الإنعام، وتسيء بثقاتك الظنون، فإن هذا موضع يجد الشيطان في مثله الذريع إلى استفساد الصنّائع،وتعطيل المكارم.
واعلم أنّ استصغارك نعمك يكبّرها عند ذوي العقول، وسترك لها نشر لها عندهم، فانشرها بسترها، وكبّرها باستصغارها.
واعلم أنّ من الفعل أفاعيل وإن عظمت منافعها. ومنافع أضدادها فلإيثارها فضيلة على كلّ حال. فاجعل صمتك أكثر من كلامك؛ فإنّه أدلّ على حكمتك. واجعل عفوك أكثر من عقوبتك، فإنّ ذلك أدلّ على كرمك. ولا تفرطنّ فيه كل الإفراط حتّى تطّرح الكلام في موضعه، والتأديب في أوانه.
واعلم أنّ لكلّ امرىء سيّدا من عمله، قد ساهلته فيه نفسه وسلس له فيه هواه، فتحفّظ ذلك من نفسك، وتقاضها الزيادة فيه، ورضها على تثميره والمواظبة عليه.
واحذر الحذر كلّه الاغترار بأمور ثلاثة؛ فإنّ من عطب بها كثير، وتلافيها صعب شديد.
أحدها: ألّا تولّي جسائم تصرّفك وتقلّد مهمّ أمورك ووثائق تدبيرك إلّا امرا صلاحه موصول بصلاحك، وبقاء النّعمة عليك هو بقاء النعمة عليه.
أو أن تأنس أو تغترّ بمن تعلم أنّ بصلاحك فساده، وبارتفاعك انحطاطه، وبسلامتك عطبه؛ فإنّ من كان هكذا فأنت ملك موته. فبحسب ذلك فليكن عندك.
أو أن تجعل مالك كلّه في عقدة واحدة، أو حيّز واحد، [أو وجه منفرد] ، إن اجتاحته جائحة أو نابته نائبة بقيت حسيرا. وقد قال بعض الحكماء: «فرّقوا المنيّة» ، و «اطلبوا الأرباح بكلّ شعب» .
واعلم أنّه ليس من الأخلاق التي ذمّتها الحكماء خلق إلّا وقد ينفع في بعض الحالات، ويردّ به شكله، ويقام بإزاء مثله، ويدافع به نظيره.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید