المنشورات

تفاضل البلدان وحب الاوطان

فصل: زيّنك الله بالتّقوى، وكفاك المهمّ من أمر الآخرة والأولى، وأثلج صدرك باليقين، وأعزّك بالقناعة، وختم لك بالسّعادة، وجعلك من الشاكرين.
سألت- أبقاك الله- أن أكتب لك كتابا في تفاضل البلدان، وكيف قناعة النّفس بالأوطان، وما في لزومها من الفشل والنّقص، وما في الطّلب من علم التّجارب والعقل.
وذكرت أنّ طول المقام من أسباب الفقر، كما أنّ الحركة من أسباب اليسر، وذكرت قوم القائل: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» .
ونسيت- أبقاك الله- عمل البلدان، وتصرّف الأزمان، وآثارهما في الصّور والأخلاق، وفي الشمائل والآداب، وفي اللّغات والشّهوات، وفي الهمم والهيئات، وفي المكاسب والصّناعات، على ما دبّر الله تعالى من ذلك بالحكمة اللطيفة، والتدابير العجيبة.
فسبحان من جعل بعض الاختلاف سببا للائتلاف، وجعل الشكّ داعية إلى اليقين، وسبحان من عرّفنا ما في الحيرة من الذّلّة، وما في الشّكّ من الوحشة، وما في اليقين من العزّ، وما في الإخلاص من الأنس.
وقلت: ابدأ لي بالشّام ومصر، وفضل ما بينهما، وتحصيل جمالهما، وذكرت أنّ ذلك سيجرّ العراق والحجاز، والنجود والأغوار، وذكر القرى والأمصار، والبراريّ والبحار.
واعلم- أبقاك الله- أنّا متى قدّمنا ذكر المؤخّر وأخّرنا ذكر المقدّم، فسد النّظام وذهبت المراتب. ولست أرى أن أقدّم شيئا من ذكر القرى على ذكر أمّ جميع القرى. وأولى الأمور بنا ذكر خصال مكّة، ثمّ خصال المدينة.
ولولا ما يجب من تقديم ما قدّم الله وتأخير ما أخرّ، لكان الغالب على النفوس ذكر الأوطان وموقعها من قلب الإنسان.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید