المنشورات

حب الوطن طبع في الناس

وقد قال الأوّل: «عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان» ، وقال ابن الزّبير:
«ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم» .
[و] لولا ما منّ الله به على كلّ جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كلّ ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوّضا إلى العقول، وإلى اختيارات النّفوس- ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللّثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكّان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذّئاب والأفاعي وحيث من عزّ بزّ، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتّغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولا لتمس الجميع السّكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة. وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشّهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير.
ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصّناعات، ومن المنازل والدّيارات، من غير أن يكونوا خدعوا أو استكرهوا.
ولو اجتمعوا على اختيار ما هو أرفع، ورفض ما هو أوضع من اسم أو كنية، وفي تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمّة، لذهبت المعاملات، وبطل التمييز، ولوقع التجاذب والتغالب، ثم التحارب، ولصاروا غرضا للتّفاني، وأكلة للبوار.
فالحمد لله أكثر الحمد وأطيبه على نعمه، ما ظهر منها وما بطن، وما جهل منها وما علم! ذكر الله تعالى الدّيار فخبّر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.
فسوّى بين موقع قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا
. فسوّى بين موقع الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم.
فصل منه:- فقسم الله تعالى المصالح بين المقام والظّعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطّلب. وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب، والبعد في المسافة، ليفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن الاختيار.
والعقل المولود متناهي الحدود، وعقل التجارب لا يوقف منه على حدّ.
ألا ترى أنّ الله لم يجعل إلف الوطن عليهم مفترضا، وقيدا مصمتا، ولم يجعل كفاياتهم مقصورة عليهم، محتسبة لهم في أوطانهم؟ ألا تراه يقول: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
. فقسّم الحاجات فجعل أكثرها في البعد. وقال عزّ ذكره: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
فأخرج الكلام والإطلاق على مخرج العموم، فلم يخصّ أرضا دون أرض، ولا قربا دون بعد. 
فصل منه:- ونحن، وإن أطنبنا في ذكر جملة القول في الوطن، وما يعمل في الطبائع، فإنّا لم نذكر خصال بلدة بعينها، فنكون قد خالفنا إلى تقديم المؤخّر وتأخير المقدّم.
قالوا: ولم نجهل ولم ننكر أنّ نفس الإلف يكون من صلاح الطبيعة، حتى إنّ أصحاب الكلاب ليجعلون هذا من مفاخرها على جميع ما يعاشر النّاس في دورهم من أصناف الطير وذوات الأربع: وذلك أنّ صاحب المنزل إذا هجر منزله واختار غيره، لم يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار، ولا ديك ولا دجاجة، ولا حمامة ولا حمام، ولا هرّ ولا هرّة، ولا شاة، ولا عصفور؛ فإنّ العصافير تألف دور النّاس، ولا تكاد تقيم فيها إذا خرجوا منها. والخطاطيف تقطع إليهم لتقيم فيها إلى أوان حاجتها إلى الرّجوع إلى أوطانها، وليس شيء من هذه الأنواع ممّا تبوّأ في الدّور باجتلابهم لها، ولا ما تبوّأ في دورهم مما ينزع إليهم أحنّ من الكلب، فإنّه يؤثره على وطنه، ويحميه ممن يغشاه.
فذكروا الكلب بهذا الخلق الذي تفرّد به دون جميع الحيوان.
وقالوا في وجه آخر: أكرم الصّفايا أشدّها ولها إلى أولادها، وأكرم الإبل أحنّها إلى أعطانها. وأكرم الأفلاء أشدّها ملازمة لأماتها، وخير النّاس آلفهم للنّاس.










مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید