المنشورات
خصال قريش
فصل منه: وقلتم: خبّرونا عن الخصال التي بانت بها قريش عن جميع الناس. وأنا أعلم أنّك لم ترد هذا. وإنّما أردت الخصال التي بانت بها قريش من سائر العرب، كما ذكرنا في الكتاب الأوّل الخصال التي بانت بها العرب عن العجم؛ لأنّ قريشا والعرب قد يستوون في مناقب كثيرة. قد يلفى في العرب الجواد المبّر وكذلك الحليم والشّجاع، حتى يأتي على خصال حميدة؛ ولكنا نريد الخصائص التي في قريش دون العرب.
فمن ذلك أنّا لم نر قريشيّا انتسب إلى قبيلة من قبائل العرب، وقد رأينا في قبائل العرب الأشراف رجالا- إلى السّاعة- ينتسبون في قريش، كنحو الذي وجدنا في بني مرّة بن عوف، والذي وجدنا من ذلك في بني سليم، وفي خزاعة، وفي قبائل شريفة.
وممّا بانت قريش أنّها لم تلد في الجاهلية ولدا قطّ [لغيرها] ولقد أخذ ذلك منهم سكّان الطّائف، لقرب الجوار وبعض المصاهرة، ولأنّهم كانوا حمسا، وقريش حمّستهم.
وممّا بانت به قريش من سائر العرب أنّ الله تعالى جاء بالإسلام وليس في أيدي جميع العرب سبيّة من جميع نساء قريش، ولا وجدوا في جميع أيدي العرب ولدا من امرأة من قريش.
ومما بانت به قريش من سائر العرب أنّها لم تكن تزوّج أحدا من أشراف العرب إلّا على أن يتحمّس، وكانوا يزوّجون من غير أن يشترط عليهم، وهي عامر بن صعصعة، وثقيف. وخزاعة، والحارث ابن كعب، وكانوا ديانين، لذلك تركوا الغزو لما فيه من الغضب والغشم، واستحلال الأموال والفروج.
ومن العجب أنّهم مع تركهم الغزو كانوا أعزّ وأمثل؛ مثل أيّام الفجار وذات كهف.
ألا ترى أنّهم عند بنيان الكعبة قال رؤساؤهم: لا تخرجوا في نفقاتكم على هذا البيت إلّا من صدقات نسائكم، ومواريث أبائكم! أرادوا مالا لم يكسبوه ولا يشكّون أنه لم يدخله من الحرام شيء.
ومن العجب انّ كسبهم لمّا قلّ من قبل تركهم الغزو. ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعترهم من بخل التجّار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطّباع، فأعطوا الشّعراء كما يعطي الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام قاموا بنوائب زوّار البيت، فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد، والراجل والرّاكب وأطعموا بدل الحيس الفالوذج. ألا ترى أميّة بن أبي الصلت يقول، ويذكر عبد الله بن جدعان:
له داع بمكّة مشمعلّ ... وحفص فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد
فلباب البرّ هو هذا النّشا، والشّهاد يعني به العسل.
ألا ترى أنّ عمر بن الخطاب يقول: «أتروني لا أعرف طيّب الطعام؟
لباب البرّ بصغار المعزى» ، يعني خبز الحوّاري بصغار الجداء.
ولقد مدحتهم الشّعراء كما يمدح الملوك، ومدحتهم الفرسان والأشراف وأخذوا جوائزهم؛ منهم: دريد بن الصّمّة، وأميّة بن أبي الصّلت.
ومن خصالهم أنّهم لم يشاركوا العرب والأعراب في شيء من جفائهم، وغلظ شهواتهم؛ وكانوا لا يأكلون الضّباب، ولا شيئا من الحشرات، ألا ترى أنّ النبي- صلّى الله عليه وسلم- أتوا خوانه بضبّ فقال: «ليس من طعام قومي» ، لأنّهم لم يكونوا يحرشون الضّباب، ويصيدون اليرابيع، ويملّون القنافذ، أصحاب الخمر والخمبر، وخبز التّنانير.
وقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر» .
وذلك أنّ جميع قبائل العرب إنّما كانت القبيلة لا تكاد ترى وتسمع إلّا من قبيلتها ورجالها، فليس عندهم، إلّا عند قبيل واحد، من البيان والأدب والرأي والأخرق، والشمائل، والحلم والنّجدة والمعرفة، إلّا في الفرط.
وكانت العرب قاطبة ترد مكّة في أيّام الموسم، وترد أسواق عكاظ وذا المجاز؛ وتقيم هناك الأيّام الطّوال، فتعرف قريش، لاجتماع الأخلاق لهم [و] الشّمائل والألفاظ، والعقول والأحلام، وهي وادعة وذلك قائم لها، راهن عندها في كلّ عام، تتملّك عليهم فيقتسمونهم، فتكون غطفان للميرة، وبنو عامر لكذا، وتميم لكذا، تغلبها المناسك وتقوم بجميع شأنها.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)