المنشورات

عودة الى خصال قريش

فصل منه: قالوا: وقد تعجّب الناس من ثبات قريش، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ في دوام كسبهم من التّجارة، وقد علموا أنّ البخل والبصر في الطّفيف مقرون في التجارة؛ وذلك خلق من أخلاقهم. وعلى ذلك شاهد أهل الترقيح والتكسّب والتّدنيق.
فكان في ثبات جودهم العالي على جود الأجواد، وهم قوم لا كسب لهم إلّا من التجارة، عجب من العجب.
ثمّ جاء ما هو أعجب من هذا وأطمّ، وذلك أنّا قد علمنا أنّ الرّوم قبل التديّن بالنّصرانيّة، كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالا، فلمّا صارت لا تدين بالقتل والقتال، والقود والقصاص. اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتّى صاروا يتكلّفون القتال تكلّفا. ولمّا خامرت طبائعهم تلك الدّيانة، وسرت في لحومهم ودمائهم فصارت تلك الدّيانة تعترض عليهم.
خرجوا من حدود الغالبيّة إلى أن صاروا مغلوبين.
وإلى مثل ذلك صارت حال الغّزغز من التّرك. بعد أن كانوا أنجادهم وحماتهم، وكانوا يتقدّمون الخرلخيّة، وان كانوا في العدد أضعافهم، فلما دانوا بالزّندقة- ودين الزّندقة في الكفّ والسّلم أسوأ من دين النّصارى- نقصت تلك الشّجاعة، وذهبت تلك الشهامة.
وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمّس. وتشدّدوا في الدين، فتركوا الغزو ولم تبق مكسبة سوى التّجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالرّوم، وإلى النجاشيّ بالحبشة. وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجّارا خلطاء. وبانوا بالدّيانة والتحمّس، فحمّسوا بني عامر ابن صعصعة. وحمّسوا الحارث بن كعب، فكانوا- وإن كانوا حمسا- لا يتركون الغزو والسّبي ووطء النّساء، وأخذ الأموال، فكانت نجدتهم- وإن كان أنقص- فإنّها على حال النّجدة، ولهم في ذلك بقيّة.
وتركت قريش الغزو بتّة. فكانوا- مع طول ترك الغزو- إذا غزوا كالأسود على براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النّافذة.
أفليس من العجب أن تبقى نجدتهم، وتثبت بسالتهم، ثم يعلون الأنجاد والأجواد، ويفرعون الشّجعان؟! وهاتان الأعجوبتان بيّنتان.
وقد علم أنّ سبب استفاضة النجدة في جميع أصناف الخوارج وتقدّمهم في ذلك، إنّما هو بسبب الدّيانة! لأنّا نجد عبيدهم ومواليهم ونساءهم، يقاتلون مثل قتالهم، ونجد السّجستانيّ وهو عجميّ، ونجد اليماميّ والبحرانيّ والخوزيّ [وهم غير] عرب، ونجد إباضيّة عمان وهي بلاد عرب، وإباضيّة تاهرت وهي بلاد عجم، كلّهم في القتال والنّجدة، وثبات العزيمة، والشّدّة في البأس سواء. فاستوت حالاتهم في النّجدة مع اختلاف أنسابهم وبلدانهم. أفما في هذا دليل على أنّ الذي سوّى بينهم التّديّن بالقتال، وضروب كثيرة من هذا الفنّ؟! وذلك كلّه مصوّر في كتبي، والحمد لله.
وقد تجدون عموم السّخف والجهل والكذب في المواعيد، والغشّ في الصناعة، في الحاكة، فدلّ استواء حالاتهم في ذلك على استواء عللهم. ليست هناك علّة إلّا الصّناعة؛ لأنّ الحاكة في كل بلد شيء واحد. وكذلك النّخّاس وصاحب الخلقان، وبيّاع السّمك. وكذلك الملّاحون وأصحاب السّماد، أوّلهم كآخرهم، وكهولهم كشبّانهم، ولكن قل في استواء الحجّامين في حبّ النبيذ!












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید