المنشورات

الكوفة والبصرة

فصل منه: قال زياد: الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها، والبصرة عجوز شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها.
فصل منه: والفرات خير من ماء النّيل. وامّا دجلة فإنّ ماءها يقطع شهوة الرّجال. ويذهب بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلّا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها؛ وإن لم يتنسّم النازلون عليها أصابهم قحول في عظامهم، ويبس في جلودهم.
وجميع العرب النّازلين على شاطىء دجلة من بغداد إلى بلد لا يرعون الخيل في الصّيف على أواريّها على شاطىء دجلة، ولا يسقونها من مائها، لما يخاف عليها من الصّدام، وغير ذلك من الآفات.
وأصحاب الخيل من العتاق والبراذين إنّما يسقونها بسرّ من رأى، ممّا احتفروها من كرابهم، ولا يسقونها من ماء دجلة؛ وذلك أنّ ماء دجلة مختلط.
وليس هو ماء واحدا، ينصب فيها من الزّابين والنّهروانات وماء الفرات، وغير ذلك من المياه.
واختلاف الطّعام إذا دخل جوف الانسان من ألوان الطّبيخ والإدام غير ضارّ، وإن دخل جوف الإنسان من شراب مختلف كنحو الخمر والسّكر ونبيذ التمر والدّاذيّ كان ضارّا. وكذلك الماء، لأنّه متى أراد أن يتجرّع جرعا من الماء الحارّ لصدره أو لغير ذلك، فإن أعجله أمر فبرّده بماء بارد ثم حساه ضرّه ذلك، وإن تركه حتّى يفتر ببرد الهواء لم يضرّه. وسبيل المشروب غير سبيل المأكول.
فإن كان هذا فضيلة مائنا على ماء دجلة فما ظنّك بفضله على ماء البصرة، وهو ماء مختلط من ماء البحر ومن الماء المستنقع في أصول القصب والبرديّ؟ قال الله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ.
والفرات أعذبها عذوبة، وإنما اشتقّ الفرات لكلّ ماء عذب، من فرات الكوفة.
فصل منه: كان يقال: الدّنيا البصرة.
وقال الأحنف لأهل الكوفة: «نحن أغذى منكم بريّة، وأكثر منكم بحريّة، وأبعد منكم سريّة، وأكثر منكم ذرّيّة» .
وقال الخليل بن أحمد في وصف القصر المذكور بالبصرة:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة عن غير ميعاد
ترى بها السّفن والظّلمان واقفة ... والضّبّ والنّون والملّاح والحادي 
ومن أتى هذا القصر وأتى قصر أنس رأى أرضا كالكافور، وتربة ثريّة، ورأى ضبّا يحترش، وغزالا يقتنص، وسمكا يصاد، ما بين صاحب شصّ وصاحب شبكة، ويسمع غناء ملّاح على سكّانه، وحداء جمّال على بعيره.
قالوا: وفي أعلى جبّانة البصرة موضع يقال له الحزيز يذكر الناس أنّهم لم يروا قطّ هواء أعدل، ولا نسيما أرقّ، ولا ماء أطيب منها في ذلك الموضع.
وقال جعفر بن سليمان: «العراق عين الدّنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد» .
وقال أبو الحسن وأبو عبيدة: «بصّرت البصرة سنة أربع عشرة، وكوّفت الكوفة سنة سبع عشرة» .
فصل منه: زعم أهل الكوفة أنّ البصرة أسرع الأرض خرابا، وأخبثها ترابا، وأبعدها من السّماء وأسرعها غرقا، ومفيض مائها البحر، ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم.
وكيف تغرق، وهم لا يستطيعون أن يوصلوا ماء الفيض إلى حياضهم إلّا بعد أن يرتفع ذلك الماء في الهواء ثلاثين ذراعا، في كلّ سقاية بعينها، لا لحوض بعينه.
وهذه أرض بغداد في كلّ زيادة ماء ينبع الماء في أجواف قصورهم الشّارعة بعد إحكام المسنّيات التي لا يقوى عليها إلّا الملوك، ثم يهدمون الدّار التي على دجلة فيكسون بها تلك السّكك، ويتوقّعون الغرق في كلّ ساعة.
قال: وهم يعيبون ماء البصرة، وماء البصرة رقيق قد ذهب عنه الطّين والرّمل المشوب بماء بغداد والكوفة، لطول مقامه بالبطيحة، وقد لان وصفا ورقّ.
وإن قلتم: إنّ الماء الجاري أمرأ من الساكن، فكيف يكون ساكنا مع تلك الأمواج العظام والرّياح العواصف، والماء المنقلب من العلو إلى السّفل؟
ومع هذا إنّه إذا سار من مخرجه إلى ناحية المذار ونهر أبي الأسد وسائر الأنهار،وإذا بعد من مدخله إلى البصرة من الشّقّ القصير، جرى منقضّا إلى الصّخور والحجارة، فراسخ وفراسخ، حتّى ينتهي إلينا.
ويدلّ على صلاح مائهم كثرة دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفّهم، وحذقهم لجميع الصناعات، وتقدّمهم في ذلك لجميع الناس.
ويستدلّ على كرم طينهم ببياض كيزانهم وعذوبة الماء البائت في قلالهم، وفي لون آجرّهم، كأنّما سبك من محّ بيض. وإذا رأيت بناءهم وبياض الجصّ الأبيض بين الآجرّ والأصفر لم تجد لذلك شبها أقرب من الفضّة بين تضاعيف الذهب.
فإذا كان زمان غلبة ماء البحر فإنّ مستقاهم من العذب الزّلال الصافي، النّمير في الأبدان، على أقلّ من فرسخ، وربّما كان أقلّ من ميل.
ونهر الكوفة الذي يسمّونه إنّما هو شعبة من أنهار الفرات، وربّما جفّ حتّى لا يكون لهم مستقىّ إلّا على رأس فرسخ، وأكثر من ذلك، حتّى يحفروا الآبار في بطون نهرهم، وحتّى يضرّ ذلك بخضرهم وأشجارهم. فلينظروا أيّما أضرّ وأيّما أعيب.
وليس نهر من الأنهار التي تصبّ في دجلة إلّا هو أعظم وأكبر وأعرض من موضع الجسر من نهر الكوفة، وإنّما جسره سبع سفائن، لا تمرّ عليه دابّة لأنها جذوع مقيّدة بلا طين، وما يمشي عليه الماشي إلا بالجهد، فما ظنّك بالحوافر والخفاف والأظلاف؟! وعامّة الكوفة خراب يباب، ومن بات فيها علم أنّه في قرية من القرى.
ورستاق من الرّساتيق، بما يسمع من صياح بنات آوى، وضباح الثّعالب، وأصوات السباع. وإنّما الفرات دمما إلى ما اتّصل به إلى بلاد الرّقّة، وفوق ذلك.
فأمّا نهرهم فالنّيل أكبر منه، وأكثر ماء، وأدوم جرية وقد تعلمون كثرة عدد أنهار البصرة، وغلبة الماء، وتطفّح الأنهار.
وتبقى النّخلة عشرين ومائة سنة وكأنّها قدح. وليس يرى من قرب القرية التي يقال لها «النّيل» إلى أقصى أنهار الكوفة نخلة طالت شيئا إلا وهي معوجّة كالمنجل. ثم لم نر غارس نخل قطّ في أطراف الأرض يرغب في فسيل كوفي، لعلمه بخبث مغرسه، وسوء نشوّه، وفساد تربته، ولؤم طبعه.
وليس لليالي شهر رمضان في مسجدهم غضارة ولا بهاء، وليس منار مساجدهم على صور منار البصرة، ولكن على صور منار الملكانية واليعقوبيّة.
ورأينا بها مسجدا خرابا تأويه الكلاب والسّباع، وهو يضاف إلى عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه.
ولو كان بالبصرة بيت دخله عليّ بن أبي طالب مارّا لتمسّحوا به وعمروه بأنفسهم وأموالهم.
وخبّرني من بات أنّه لم ير كواكبها زاهرة قطّ، وأنّه لم يرها إلّا ودونها هبوة، وكأنّ في مائهم مزاج دهن. وأسواقهم تشهد على أهلها بالفقر. وهم أشدّ بغضا لأهل البصرة من أهل البصرة لهم، وأهل البصرة هم أحسن جوارا، وأقلّ بذخا، وأقلّ فخرا.
ثم العجب من أهل بغداد وميلهم معهم. وعيبهم إيّانا في استعمال السّماد في أرضنا ولنخلنا، ونحن نراهم يسمّدون بقولهم بالعذرة اليابسة صرفا، فإذا طلع وصار له ورق ذرّوا عليه من تلك العذرة اليابسة حتّى يسكن في خلال ذلك الورق.
ويريد أحدهم أن يبني دارا فيجيء إلى مزبلة، فيضرب منها لبنا، فإن كانت داره مطمئنّة ذات قعر حشا من تلك المزبلة التي لو وجدها أصحاب السّماد عندنا لباعوها بالأموال النفيسة.
ثم يسجرون تنانيرهم بالكساحات التي فيها من كلّ شيء، وبالأبعار والأخثاء، وكذلك مواقد الكيران.
وتمتلىء ركايا دورهم عذرة فلا يصيبون لها مكانا، فيحفرون لذلك في بيوتهم آبارا، حتّى ربما حفر أحدهم في مجلسه، وفي أنبل موضع من داره.
فليس ينبغي لمن كان كذلك أن يعيب البصريّين بالتّسميد.
فصل منه: وليس في الأرض بلدة أرفق بأهلها من بلدة لا يعزّ بها النّقد، وكلّ مبيع بها يمكن.
فالشّامات وأشباهها الدّينار والدّرهم بها عزيزان، والأشياء بها رخيصة لبعد المنقل، وقلّة عدد من يبتاع. ففي ما يخرج من أرضهم أبدا فضل عن حاجاتهم.
والأهواز، وبغداد، والعسكر، يكثر فيها الدّراهم ويعزّ فيها المبيع لكثرة عدد الناس وعدد الدراهم.
وبالبصرة الأثمان ممكنة والمثمّنات ممكنة، وكذلك الصّناعات، وأجور أصحاب الصناعات. وما ظنّك ببلدة يدخلها في البادي من أيّام الصّرام إلى بعد ذلك بأشهر، ما بين ألفي سفينة تمر أو أكثر في كلّ يوم، لا يبيت فيها سفينة واحدة، فإن باتت فإنّما صاحبها هو الذي يبيّتها. لأنّه لو كان حطّ في كلّ ألف رطل قيراطا لانتسفت انتسافا.
ولو أنّ رجلا ابتنى دارا يتمّمها ويكمّلها ببغداد، أو بالكوفة، أو بالأهواز، وفي موضع من هذه المواضع، فبلغت نفقتها مائة ألف درهم، فإنّ البصريّ إذا بنى مثلها بالبصرة لم ينفق خمسين ألفا، لأنّ الدّار إنّما يتمّ بناؤها بالطّين واللّبن، وبالآجرّ والجصّ، والأجذاع والسّاج والخشب، والحديد والصّنّاع، وكّل هذا يمكن بالبصرة على الشطّر مما يمكن في غيرها. وهذا معروف.
ولم نر بلدة قطّ تكون أسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها إلّا البصرة: 
طعامهم أجود الطّعام، وسعرهم أرخص الأسعار، وتمرهم أكثر التّمور، وريع دبسهم أكثر، وعلى طول الزّمان أصبر، يبقى تمرهم الشّهريز عشرين سنة، ثم بعد ذلك يخلط بغيره فيجيء له الدّبس الكثير، والعذب الحلو، والخاثر القويّ.
ومن يطمع من جميع أهل النّخل أن يبيع فسيلة بسبعين دينارا، أو بحونة بمائة دينار، أو جريبا بألف دينار غير أهل البصرة؟
فصل منه: ولأهل البصرة المدّ والجزر على حساب منازل القمر لا يغادران من ذلك شيئا. يأتيهم الماء حتّى يقف على أبوابهم؛ فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا حجبوه.
ومن العجب لقوم يعيبون البصرة لقرب البحر والبطيحة ولو اجتهد أعلم النّاس وأنطق النّاس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة، لما قدر عليها.
قال زياد: قصبة خير من نخلة.
وبحقّ أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرّفه وما يجيء منه، فما قدرت عليه حتّى قطعته رانا معترف بالعجز، مستسلم له.
فأمّا بحرنا هذا فقد طمّ على كلّ بحر وأوفى عليه، لأنّ كلّ بحر في الأرض لم يجعل الله فيه من الخيرات شيئا. إلّا بحرنا هذا. الموصول ببحر الهند إلى ما لا تذكر.
وأنت تسمع بملوحة ماء البحر، وتستسقطه وتزري عليه. والبحر هو الذي يخلق الله تعالى منه الدّرّ الذي بيعت الواحدة منه بخمسين ألف دينار، ويخلق في جوفه العنبر، وقد تعرفون قدر العنبر. فشيء يولّد هذين الجوهرين كيف يحقّر؟.
ولو أنّا أخذنا خصال هذه الأجمة وما عظّمنا من شأنها. فقذفنا بها في زاوية من زوايا بحرنا هذا لضلّت حتّى لا نجد لها حسّا، وهمّا لنا خالصان دونكم.
وليس يصل إليكم منهما شيء إلّا بسببنا وبعد أن فضل عنا.
وقال بعض خطبائنا: نحن أكرم بلادا، وأوسع سوادا، وأكثر ساجا وعاجا وديباجا، وأكثر خراجا.
لأنّ خراج العراق مائة ألف ألف واثنا عشر ألف ألف، وخراج البصرة من ذلك ستّون ألف ألف، وخراج الكوفة خمسون ألف ألف.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید