المنشورات

الحكمين وتصويب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في فعله

موضوع الرسالة
وفّقك الله للسلامة والغنيمة، وأعزّك بالحقّ، وختم لك بالسعادة، وجعل لك من علمك واعظا ورقيبا [و] من نفسك سامعا ومطيعا؛ وجعل لك مع حزمك نصيبا من التوكل، ومع توكلك حظّا من التحذّر، حتى تقبل إذنه في الحذر وتطيع أمره في التوكّل؛ قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل» ، فجمع بين الأمرين وسوّى بين الوصيّتين، وقال صلى الله عليه وسلم: «أبل الله من نفسك عذرا، فإذا أعجزك أمر فقل: الله حسبي» ، قال أبو عبيدة ابن الجرّاح لعمر بن الخطّاب حين خاف طواعين الشام فانكفأ راجعا إلى المدينة: «أتفرّ من قدر الله؟» - قال: «نعم، إلى قدر الله!» وقال له سعيد بن جرير: «قم، أينفع الحذر من القدر؟» - فقال: «لسنا ممّا هناك في شيء؛ إنّ الله لا يأمر بما لا ينفع ولا ينهى عمّا لا يضرّ» .
وقد كنت حذّرتك، يا ابن حسّان، أمورا، فكأني أغريتك بها، وآنستك بأمور، فكأني أوحشتك منها، وكنت لا أظنّ بك من النقصان إلّا ما كان عن بلوغ الكمال، ولا من التقصير إلّا ما كان عن التفضل، ولا من تضييع الرأي إلّا ما أمكن من استدراكه قبل الفوت، ولا من نكوب ما لا يبلغ الكثير إلّا ما لا يسبق الندم، ولا من النسيان إلّا ما لا يمنع من سرعة الانتباه، ولا من السآمة إلّا ما لا يقرّب من المعجزة، ولا من الحميّة إلا ما لا يخلط العصبيّة،ولا من التنافس إلّا ما باعد عن التحاسد، وكنت عندي، إن لم تكن مع العلية، فلم تنحطّ عن الأوساط إلى السفلة، وإن رضيت بحال المنفصلين، لم ترض إلّا أن تكون مع المنصفين، وإن لم تكن غنيّا لمخالفيك عند مناظرتهم لك، ورائدا لموافقيك عند استعانتهم بك، وآلة لمن استملى منك، ومفزعا لمن سمع إليك، وحرزا لاسرار خصمك، وحائطا من وراء من ذهب من الناس عنك، لم تكن عندي بمخوف على ما انتهى إليّ من خبرك ولا على ما حكاه من لا يتّهم على مودّتك.
- عتبت عليك في مجادلة الرافضة، فأعتبتني بمماراة الغالية، وأنكرت منك مقارنة الخوارج، فأردفت ذلك بمسامحة النوابت، حين زعمت في جواب مسألة النابتيّ أنّ عليّا كان أحقّ بالإمامة من معاوية، وزعمت في جواب الخارجي أن رضاه كان هفوة منه ومكيدة من عدوّه، إلّا أنّها الهفوة التي تبلغ الضّلال، والفهمة التي لا تفسد الحكم، والنقصان الذي لا يكمل معه حل العقد، والتضييع الذي لا ينقض معه العهد.
ثمّ قطعت الشهادة وأوجبت الحكومة أنّ عليا قال عند موته وأقرّ عند زلله:
إنّي عثرت عثرة لا تنجيز ... سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
ثمّ قضيت بعد قطع الشهادة والحكم على غائب الفعل بأنه لم يعن بذلك القول إلّا الرضى بالحكمين، وجزمت على أنّه لا تأويل لذلك القول إلّا ما ذهبت إليه ولا معنى له إلا ما قضيت به.
فأجمع الآن بالك في الاستماع للحقّ كما جمعت بالك في الاجترام على الباطل، وفرّغ قلبك لما أنا واصفه لك ومقرّبه من عقلك؛ فإن أعجزك الفهم فليس يعجزك التفهّم، وأوّل منازل الإنصاف حسن التثبّت، ونعم الرائد التفهّم ونعم العون حبّ الإنصاف! وقال يزيد بن المهلّب: «هذا ابن الأشعث غلب على النصر فغلب على الصبر» ؛ فأحذر أن يقال: «هذا ابن حسّان غلب على العلم فغلب على التعلّم!» ، وقد قال عامر بن عبد القيس:
«الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان» .
وقد علم أني شديد الحبّ إلى رشادك، حريص على هدايتك، وأنا بعد ذلك كله أسأل الله أن يديم لك العصمة وأن يوفقك للمعرفة، وقد قال بعض العلماء: «لا تستجب إلا لمخلص أو مظلوم» ؛ فأما نيّتي في تبصرتك باب الرشد من العيّ فقد تقدّم القول مني فيها بما سمعت؛ وأما الظلم فمن أظلم لصديقه ممّن أفسد نفسه عليه، ومن أجوز على وليّه ممّن دان بدين عدّوه؟ ومن التوفير على حظّ هذا الكتاب من الأفهام وعلى حظّك من التفهّم أن لا يهدّه القارىء هدا ولا ينثر كلامه نثرا، فلا يكون نصيب السمع منه إلّا صدى الصوت ولا حظّ العقل منه إلّا استحسان التأليف؛ فعليك بالتوقّف وحده بالترسّل والتثبّت مع تفريغ البال ونفي الاشغال ومع الاحتراس من دبيب الهوى وفراغ المنشإ.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید