المنشورات
معاوية يستغل موقف سعد وابن عمر ويفيد من اختلاف جند علي واتفاق جنده
فلمّا فرغ من تثبيت ذلك عندهم وهمّهم أنّ من منع الضالّ من الإمامة أحقّ منه بالإمامة، وأنّ أولى الناس بمقام الإمام من انتدب للطلب بدمه وبذل في ذلك نفسه لأخذ الحقّ منه لولده ووليّ دمه، فلما فرغ من ذلك وهّمهم وثبتت عندهم أنّ من دان بدين سعد وذهب مذهب ابن عمر ممّن لا يرى قتال «الفئة الباغية» ويقول: «كن عبد الله المقتول» لا يرى طلبها ولا الدفع عنها إلّا بالكفّ دون البسط وإلّا بالجدال دون القتال- وعلى أنّ عليه إن ظنّ أنّ الجدال يؤدّي إلى شيء من القتال أن يكون أترك الناس للدعاء إليها والإحواج لها فضلا على غير ذلك من الأمور [ ... ] .
هذا مع ما عليه من طبائع الناس من حبّ المال والعلوّ في الحال وأنه متى لم يرعهم السوط وينهكهم السيف فالأمر مريج والفساد شامل والحرب أكيدة والفتن شائعة والأمر مضاع والحقّ مقموع، ومن عزّ بزّ ومن قلّ فلّ ومن فلّ أكل ومن ظهر قتل؛ فالإمام ما لم يحم مكانه وثغر سلطانه فمغلوب معزول ومطلوب مقتول، والرئيس ما لم يذد عن حوضه ويحام عن عشيرته فمسلوب مغلول أو [م] شلو [ل] مأكول على الدنيا ولم يكن معنى قطّ على هذه الصفة ولا صحّت يوما قطّ إلّا على خلاف هذه الحال.
وممّا تهيّا له من الأسباب واتّفق له من العلل ما كان ظاهرا من رأي سعد وابن عمر في تحريم البسط والأمر بالكفّ والنهي عن حمل السلاح والإمكان من الحربة: فاجتمع له السبب الذي به يوهم موضع دم عثمان؛ فانّ سعدا، وإن كان بقيّة الشورى، فانّ الحق لا يغريه وإنّ الباطل لا يضل به؛ وعلى هذين الاصلين دار [..........] الطمع منه فيها واستجاز الطلب لها والحرص عليها.
ثمّ اتّفق أنّ جنده يمانية إلّا القليل، وجند عليّ نزاريّة إلّا القليل؛ واتّفق أن كان أهل العراق أصحاب الخواطر والنظر والتأويل والقياس، ومع هذه الصفة يكون الاختلاف إذ كانوا عربا وأعرابا وعهدهم بالجاهليّة قريب وتعظيم الرؤساء فيهم غير قديم؛ وأهل الشام هم في قلّة الخواطر والتنقير وفي قلّة الفطنة والتفتيش على خلاف ذلك؛ وكانوا ملوكا وأجناد ملوك أو قرابين ملوك، لا يعرفون إلّا طاعة الملوك والكبراء واتبّاع الرؤساء؛ وقد علمت أنه متى أطاع الجند الرئيس والرئيس يصيب الرأي، فكلّهم رئيس وكلّهم مصيب ومع الإنصاف تجتمع القوّة ويقوى الضعيف، ومع الاختلاف ينتثر الأمر وتنكبت القوّة؛ وقيل لرجل من عبس: «كيف نهضتم بالعمائر الكبار على الألوف؟» - قال: «كان لنا رئيس يصيب الرأي وكنّا له تبعا فكنّا ألف رئيس» .
وجند عليّ بن أبي طالب من ربيعة ومضر، وهم كانوا أصحاب التحارب في الجاهلية والتجاذب، وفيهم كان التحالف والتجاور، وهم كانوا أصحاب الغزو والغارات والسبي وطلب الطوائل، وأكثرهم أصحاب وبر وعمد وصحار، وأقلّهم أصحاب المدر والمحالّ، وأكثرهم أصحاب الحذر والنجعة والفقه والمواثبة [؟] ؛ ومع الحاجة يكون الطلب والحركة ومع الغناء والخصب يكون الحلم والمروّة والتثاقل عن الحركة؛ حتى كان رؤساؤهم يخرجون في الحروب والمغازي متسايرين، لكل رأس لواء ولكل سيّد معسكر؛ وما زال أصحاب التجارب والعقول وأهل النظر والتحصيل من كل ملّة وأمة وقرن وبلدة يرون انّ الشرك في الحرب كالشرك في الملك وأنّهما كالشرك في الزوجة، وأنّ الخطأ في ذلك لا يستقال والوهن لا يستدرك، وأنّ هذه الخصال فاحشة الضرر سيئة الاثر، لا يثبت معها إلف ولا يصلح عليها تدبير؛ فاحتملوا ما في التشابه من ضرر التساند لنكود الاخلاق ولشرف الحميّة ولما كانوا عليه من حميّة الجاهلية.
ألا ترى أنّ مروان بن محمّد لما استبدل قيس عيلان الجند بقيس عيلان الجند، من أبناء قحطان، كيف ظهر انتشار أمره واضطرب حبله واختلفت الكلمة وتقطّع النظام وانحلّت العقد وأدبر الملك وركدت الريح؟ هذا وقيس عثمانية عند أنفسها جماعيّة دعاميّة فيما تذهب إليه سلطانيّة، كذلك اصطهرت إليها الملوك، يعني المصاهرة دون النزارية بالانفس، ووليت العراق المرار الكثيرة والثغور العظام والمهم من الأمور الجسام؛ ولم يفعلوا ذلك بتميم ولا بربيعة لما كان فيها من النزوح والخارجية، ولذلك قلت الفتوح في تميم وربيعة؛ وكانت قيس في جملة أمورها ومعظم تدبيرها زارية على الشيعة ناقمة عليها، نافرة من الخوارج ناهية عنها؛ وقد عرفت ما كان من شأن زفر ابن الحارث ومجاشع إبن مسعود وحاتم بن النعمان والجحّاف بن حكيم، وحال كلّ من سيّره عليّ من البصرة بعد وقعة الجمل الى الجزيرة؛ ثمّ مع ذلك ما برحت أن نزعها ذلك العزم وجذبها ذلك الطمع ولم تدعها الرحم من نزار، وعرف مروان فضل رأي أسلافه على رأيه وتدبيرهم على تدبيره.
ولعلّ قائلا يقول: «فأين ربيعة السامعة المطيعة وكانت شطر نزار ومعظم الفرسان؟ أو ما كانوا في طاعة عليّ مجتهدين وعلى معاوية مطيعين، حتى هجروا فيه الإخوان والجيران وفارقوا من أجله الأوطان كصنيع عجل بالبصرة وانتقالهم بعد نصرته يوم الجمل إلى الكوفة حتى نزلت ديارهم وصارت في ربوعهم الازد، يتقدّمها ابن نوح؟ قال في ذلك الشاعر:
وشيّب رأسي قبل حين مشيبه ... نزول العبيد في ديار بني عجل
قلنا لهم عند ذلك: قد كانوا كما وصفتم ثم صاروا شرّا من قيس وأكثر خلافا من تميم، على أنّهم بتميم أشبه؛ ولذلك قال الحجّاج: «الكوفة أشبه بالبصرة من بكر بن وائل بتميم» ؛ بل صارت رجال يمانية أسوأ طاعة وأكثر خلافا من رجال نزار، كالذي كان بين الأشتر والأشعث وكالذي كان بين الأشعث وحجر؛ وما تخفى عليك امور لهمدان وكندة في تلك الأيام، وحال سعيد بن قيس، وما كان من قول عبد الله بن بديل، هذا إن كان بعض ما ذكرنا يعرفها من قبل عليّ ومعاوية ابن ملجم، ومن إمداده الرأي ومن تشجيعه على الاقدام وإفساد يمانيته عليه فضلا على قيسيته؛ فقال يزيد بن حجبة قبل أن يكون إليه من عليّ بن أبي طالب ما كان:
عادت ربيعة قيسا بعد طاعتها ... حتّى اليمانيّ لا يبقي ولا يذر
ثم صرف إلى معاوية مع أكثر قومه من تيم اللات بن ثعلبة وقال:
وقالوا: عليّ ليس يقتل مسلما ... فمن ذا الّذي يحيي الرّفات ويقتل
ثمّ لحق بالشام خالد بن المعمّر في أكثر بني سّدوس، ولقدره ولقدر ما جلب إلى معاوية من القوّة قال قائلهم:
معاوي أمّر خالد بن معمّر ... فإنّك لولا خالد لم تعمّر
ثمّ لحق مصقلة بن هبيرة في عامّة بني شيبان في رجال كثير ورؤساء لا يحصون، معروف سبب هربهم وشهور تنقّمهم؛ وأمّا مصقلة بن هبيرة فانه طولب بما عليه من مال الله من ثمن من أعتق من بني ناجية؛ وأمّا يزيد بن حجبة ففرّ من الجيش لما كان فرّ من خراج المسلمين إلى ما لا يعرف من هرب النجاشيّ عند شرب الخمر.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)