المنشورات

معاوية ليس ادهى من علي ولكنه كان يستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها بينما لم يستعمل علي الا ما وافق الكتاب والسنة

اللهم إلا أن لا يكون عصى عليّ عندهم إلا في تحكيم الرجال دون تأخير القتال؛ فان كان ذلك كذلك فما قولهم وإكثارهم: «عصينا أمس حين قطعنا القتال وعصى عليّ حين رجعنا ندعوه إلى القتال [-] رأى؛ فقد ينبغي لنا الآن أن نقصد إلى الجواب في لفظ التحكيم: أيجوز أم لا يجوز، فندع ما سوى ذلك من الأمور؛ وإذا لم يبق إلا ذلك فقد سقط ثلاثة أرباع الخلاف، وليس على ذلك بنى القوم أمرهم وجرت عليه عادتهم؛ وربّما رأيت بعض من يظنّ أنه من الخاصة ويزعم ان معاوية كان أبعد غورا وأصحّ فكرا وأجود رويّة وأبعد غاية وأدقّ مسلكا، وليس الأمر كذلك، وسأومىء إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله، فافهم ذلك.
كان عليّ لا يستعمل في حربه إلا ما عدّله ووافق فيه الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة ويستعمل جميع المكايد وجميع الخدع حلالها وحرامها، ويسير في الحرب سيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى زنبيل وفنغور إذا لاقى المهراج؛ وعليّ يقول: «لا تبدؤوهم بقتل حتى يبدؤوكم، ولا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا» ؛ فهذه سيرته في ذي الكلاع وأبي الأعور السّلمي وعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وجميع الرؤساء، كسيرته في الحاشية والحشو والاتباع والسفلة؛ وأصحاب الحروب ان قدروا على البيات بيّتوا، وأن قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه ساعة، وإن كان الحريق بالنار أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحريق إلى وقت الغرق، وإن أمكن الهدم لم يتكلّفوا الحصار ولا يدعون أن ينصبوا العرّادات والمجانيق والثقب والتسرّب والدبّابات والكمين، ولا يدعون دسّ السموم والتضريب بينهم بالكذب وطرح الكذب في عساكرهم بالسعايات وتوهيم الأمور وإيحاش بعضهم من بعض وقتلهم بكل آلة وحيلة وكيف [ما] وقع القتل وكيف [ما] دارت به الحال.
فمن اقتصر- حفظك الله- من التدبير على ما في الكتاب والسنّة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وأما الاشاهي من المكايد؛ والكذب- حفظك الله- أكثر من الصدق، والحرام أكثر عددا من الحلال؛ ولو سمّى إنسان إنسانا باسم الانسان كان قد صدق وليس له اسم غيره؛ ولو قال: هو شيطان، أو كلب، أو حمار، أو شاة، أو بعير، لكان كاذبا في كلّ ذلك؛ فكذلك الايمان والكفر، وكذلك الطاعة والمعصية، وكذلك الحقّ والباطل، وكذلك السقم والصحة؛ وكذلك الصواب والخطأ.
فعليّ كان بالورع ملجما عن جميع القول إلّا ما هو لله رضى، ولا يرى الرضى إلا فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وممنوع اليد من البطش إلا ما هو لله رضى دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكرى والمكايد والآراء؛ فلمّا أبصرت العوام- حفظك الله- بوادر معاوية في المكايد ومثابرة غوايته في الخدع وكثرة ما اتفق له وتهيأ على يده، ولم يروا مثل ذلك من عليّ، ظنّوا بقصور رأيهم وقلّة عقولهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند عليّ؛ فانظر بعد ذلك هل بقي له إلا رفع المصاحف وهي من خدعه، ثمّ انظر هل خدع بها إلا من عصى عليّا ومال عن رأيه وخالف إذنه.
فان زعمت أنه نال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت، وليس في هذا اختلفنا ولا عن غرارة أصحاب علي وعجلتهم وتسرّعهم وتنازعهم دفعنا، وإنما كان القول في التمييز بينهما في الدهاء والنكرى وصحة العقل والرأي البر، لا على أنا لا نصف الصالحين بالدهاء والنكرى ولا نقول: «ما كان أنكر أبا بكر ابن أبي قحافة وما كان أنكر عمر بن الخطاب!» ، ولا يقول أحد عنده من الخبر شيء: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أدهى العرب والعجم وأنكر قريش وأمكر كنانة» لأنّ هذه الكلمة إنما وضعت في مديح أصحاب الأرب ومن يتعمّق في الرأي في توكيد أمر الدنيا وزبرجدها وتشديد أركانها؛ فأما أصحاب الآخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر وإنما يصلحون على تدبير الخالق للبشر، فانّ هؤلا لا يمدحون بالدهاء والنكرى ولم يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه؛ ألا ترى أنّ المغيرة بن شعبة، وكان أحد الدّهاة، [قال] : «أنت كنت توهم شيئا فتلقيه عنك، ما رأيتك مستجليا أحدا إلا رجمته كائنا من كان ذلك الرجل، كان- والله- أعقل من أن يخدع وافضل من أن يخدع» ، ولم يذكره بالدهاء والنكرى، هذا مع عجبه باضافة الناس ذلك اليه؛ ولكن قد علم أنه إن أطلق على الائمة الألفاظ التي [لا] تصلح لاهل الطهارة كان ذلك غير مقبول منه، فهذا هذا.
وكذلك كان حكم قول معاوية للجمع: «أخرجوا إلينا قتلة عثمان نحن لكم سلم» ، فاجهد كلّ جهدك واستعن بمن شايعك إلى ان تتخلّص الى صواب رأي في ذلك الوقت أضله عليّ حتى تعلم أنّ معاوية خادع وان عليّا كان المخدوع؛ فإن قلت: وقد بلغ ما أراد ونال ما أحبّ، قلنا: وهل رأيت كتابا وضع لا على أنّ عليّا كان قد امتحن في أصحابه في دهره لما لم يمتحن به إمام قبله من الاختلاف والمنازعة والتشاجّ على الرئاسة والتسرّع والعجلة، وهل أتي إلا من هذا المكان؟ أو لسنا قد فرغنا من هذا مرّة؟ وقد علمنا أنّ ثلاثة نفر تواطؤوا وتتابعوا على قتل ثلاثة: فانفرد ابن ملجم بالتماس ذلك من عليّ، وانفرد [عمرو بن بكر التميمي] بالتماس ذلك من عمرو بن العاص وانفرد [البرك بن عبد الله الصريميّ] بالتماس ذلك من معاوية؛ فكان من الاتّفاق او من الامتحان أن كان عليّ المقتول من بينهم، وفي قياس مذهبكم أن تزعموا أنّ سلامة معاوية وعمرو إنما كانت بحزم كان منهما، وان قتل عليّ إنما كان من تضييع كان منه، إذ قد تبيّن لكم من الابتلاء والامتحان في نفسه خلاف الذي قد شاهدتموه في عدوّه وكلّ شيء سوى ذلك فانما هو تبع للنفس، فهذا باب:










مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید