المنشورات
كتاب القضية مدخول لفظا وشهودا ومضمونا
وزعمت أنّ كتاب القضيّة في الحكمين يثبت للخوارج حجّتهم وأنّ لفظه يمتنع فيه التوجيه والتورية، وسألتني أن أكتب لك الكتاب لتجمع بين مخارج لفظه ودلائل وصفه وبين احتجاجي له في ضماني عليه؛ والكتاب الذي يدور في صحف أصحاب الاخبار والاسناد هو هذا الكتاب الذي أنا مصوّره لك، ولكني بعد ذلك عائد إلى أسانيده بالتصفّح في التثبّت وعلى أصل مخرجه بالتفتيش والتنقير إن شاء الله:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزّهري وحباب بن موسى وعليّ ومجاهد عن محمّد بن إسحق: بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (قال معاوية: «لو سمّيتك بهذا لم أحاربك ولولا أنّك أسنّ منّي ما قدّمتك» ، فأبى عليّ مليّا من النهر ثم تسمّح وكتب: هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان:
قاضى [عليّ بن أبي طالب] على أهل العراق [ومن كان معه] من شيعته من المؤمنين والمسلمين [وقاضى معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين] أنّا ننزل عند حكم الله في كتابه فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجدنا في كتاب الله مسمّى أخذنا به، وما لم نجده في كتاب الله مسمّى فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرقة فيما اختلفنا فيه؛ والحكمان عبد الله بن قيس الاشعريّ وعمرو بن العاص؛ وأخذ علي ومعاوية عليهما عهد الله ليحكمان بما وجدا في كتاب الله وما لم يجدا في كتاب الله مسمّى فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرقة؛ وأخذ الحكمان من عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان الذي يرضيان من العهد والميثاق ليرضيان بما يقضيانه فيهما من خلع من خلعا وتأمير من أمّرا؛ وأخذا من علي ومعاوية والجندين كليهما الذي يرضيانه من العهد والميثاق وأنّهما آمنان على أنفسهما وأموالهما، والامّة لهما أنصار على ما يقضيان به عليهما وأعوان على من بدّل وغيّر، وأنّه قد وجبت القضيّة من المؤمر والآمر والاستفاضة ورفع السلاح أين ما شاؤوا وكانوا على أنفسهم وأهاليهم وأموالهم وأرضهم وشاهدهم وغائبهم؛ وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليقضيان بين الأمة ولا يذراهم في الفرقة والحرب حتى يقضيا؛ وآخر أجل القضيّة بين الناس في انسلاخ شهر رمضان؛ فإن أحبّا أن يعجلا ذلك عجّلا، وإن أحبّا أن يؤخرّا ذلك عن ملاءمتهما وتراض أخّرا؛ وإن هلك أحد الحكمين فانّ أمير الشيعة والشيعة يختارون مكانه رجلا لا يألون عن أهل المعدلة والاقتصاد، وانّ ميعاد القضية أن يقضيا بمكان من أهل الكوفة وأهل الحجاز وأهل الشام سواء لا يحضرهما فيه إلّا من أراد، فان أحبّا أن يكون بأذرح وبدومة الجندل كان، وإن رضيا مكانا غيره حيث أحبّا فليقضيا على علي ومعاوية أن يجتمعا على الحكمين؛ شهد عبد الله بن عبّاس والاشعث بن قيس وسعيد بن قيس وورقاء بن [.........] البكريّ الخارفيّ وعبد الله بن طفيل البكاويّ و (يقال:
عبد الله بن طليق البكاوي) وجرير بن يزيد الكنديّ وعبد الله بن حجل العجليّ وعتبة بن زياد المذحجيّ (أو الانصاري) ومالك بن كعب النحلي (أو الهمداني ويقال: عتبة ابن زيد ويقال زياد بن كعب» .
- وأنا أقول- حفظك الله- أن كتاب القضية كتاب مدحول. منه ما يشبه ألفاظهم ولحنهم وطبع الفصاحة وقريحة البلاغة- وللقوم كلام معروف وجوهر معلوم متى تكلّف المولد لم يستطع تغليط الجهابذة فيه إذا طال شعره وامتدّت خطبته، وكذلك رسالته واحتجاجه، وقد يخفى ذلك في الشعر القصير والكلام القليل-؛ وفي هذه القضيّة كلام ركيك ضعيف خفيف سخيف، وفيها ما يضارع العجمة ويناسب الضعة؛ وممّا يبهمه أيضا اختلاف الخوارج والشيعة وما بين أهل الشام واهل العراق من الزوائد والنقصان فيه مع ضعف أسانيده وحال رواته عند رواة الآثار وحمّال الأخبار وعند ناقلي الحلال والحرام، ولأنّ أبعد غاياتهم فيه الزّهريّ وأمتن ما يعتمدون عليه ابن اسحق وهذان لم يدركاه ولا شاهداه؛ فكلّ من روى ذلك عنهما فليس بالمحمود ولا المثبت المقبول؛ وليس العلم به وبصحّته كالخبر الذي ليست للخاصّة فيه فضيلة على العامّة وإنّما هو خبر يدرك عند من يطلب مثله؛ فإذا لم يجده في معدن الصحّة وفي جوهر الصدق ومصاب السلامة والبراءة من التهمة فكان معرضا لأصحاب الأهواء أو لمن له في النقصان منه والزيادة فيه وفي تحريفه وتبديله أقوى العلل؛ لم يكن لك ان تقضي به على عليّ بن أبي طالب في سابقته وشدّة ورعه واتسّاع معرفته وصحّة غريزته وثبات حجّته فكنت خليقا أن تردّ حكم ذلك إلى الأصل الذي به عرفت فضيلته ونقصان غيره عن درجته.
وعلى أنّ عامّة الشهود المذكورين فيه مشكوك في نسبهم، مختلف في أسمائهم، ثم لا تجدهم إلّا أقلّ القليل من وجوههم وذوي العدالة والأقدار منهم، حتى كان واصفه حيث وصفه وصفه [وصف] من له الخيار عليه: إن شاء أثبته وإن شاء أنكره؛ ونحن لا نشكّ أنّ عليّا إنّما أعطى القوم لفظا ليحكم واستحلّ ذلك التوهّم لما رجا في تلك المهلة والهدنة من رجوع بصائرهم إليهم ومن اجتماعهم بعد فرقتهم؛ وفي هذا الكتاب أنّ أجل القضيّة سلخ شهر رمضان، وهذا كلام ظاهره ينقض ظاهر التدبير الذي لا وجه للتحكيم غيره ولا عذر فيه سواه وليس نقضه له بما يعرف [بالاستنباط] وبعد التفكير فيدّعى فيه الغلط، بل هو ظاهر فيهما قائم بهما.
وقد قسمنا أقسام التدبير الذي لا يجوز على غيره وعددنا أبواب ذلك وسألنا المخالفين لنا أن يزيدوا فيها وينقصوا منها، فلم نجد ذلك بعد التفكير منها ومنهم وبعد أن مرّت عليه الدهور وبردت عليه الحقود؛ فكيف يجوز لنا أن نظن أنّ عليّا وأصحابه تولّوا نقض تدبيرهم بأيديهم ولم يدفعوه ولم يحتالوا فيه وكيف سهلوا وكيف هان عليهم موقعه وهم لا يطمعون في سواه ولا حيلة لهم غيره؟ وبعد فمدار الكلام إنّما هو على أنّ عليهما أن ينظروا في كتاب الله وفي سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فإن دلّ الكتاب على أنّ عليا هو الإمام فعليّ هو الإمام وسبيل السنّة في ذلك سبيل الكتاب وكذلك حالهما في الحكم لمعاوية.
فخبّرني- رحمك الله- وقف عندما أسألك عنه عن الكتاب، كيف يجوز أن يدلّ على معاوية وكيف جواز ذلك وأين بابه وأين مفتاحه والطريق إليه، في أيّ سورة ذلك الدليل وفي [أيّ] آية ذلك البرهان يصاب؟ وأين تلك السنّة، وأين تطلب، ومن أيّ شكل هي، وما لفظها، وما أصل معناها؟ وقد علمت أنّ القرآن الذي أشاروا إليه هو الذي في مصاحفنا وإنّ السنن التي قصدوا إليها هي التي في صحفنا ممّا فرض الله في كتابه وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمّته؛ فانظر فيهما وتبينهما وفتشهما بالنظر الشافي والتقليب المستقصي: هل تجد فيهما اسم معاوية أو صفته او جليته او صفة عمله او جليّة عمله؟.
وقد علمنا ان الله الجليل قدره لم يقل في كتابه: «اقبلوا شهادة أبي بكر وعمر وعثمان» ولكنّ الله لمّا قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ
وجدناهم مرضيين نصّا فقبلنا شهادتهم؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليؤمّكم خياركم» ، فإذا كان الغرض الذي إليه ينزع الكلام ويشير القول إليه الخير دون الشرّ والفضل دون النقص، فكلّ من كان خيرا كان احقّ بتلك الإمامة؛ فإن كان كتاب القضيّة إنّما دعا الحكمين إلى هذا الجنس من النظر، فليس لمعاوية فيه درك، ولا متعلق ولا طمع، وإن كان على غير هذا الوجه فخبّرني ما هو وما شكله وأيّ صورة هو.
وقد قالوا في وصف السنّة فجعلوها العادلة والجامعة غير المفرقة، والسنن كلّها عادلة وكلّها جامعة غير مفرقة، فأيّتهنّ هي وما علامتها وما شبهتها؟
ويدلك على فساد هذا الأمر أنّه لم يأتنا قطّ أنّهما مذ نفذا إلى أن انقضى امرهما تذاكرا شيئا من ذلك في خلاء ولا ملاء ولا التمسا تأويلا ولا خرّجا تفسيرا؛ ولا سمعنا في ذلك إلّا ما كان منهما عند المراوضة انّ الناس لا يكتبون بعد تفريقهم إلّا على رجل لم يخض في الدماء وليس لأحد قبله بيعة ولا وتر؛ فهذا خلاف الشريطة والذي وقعت فيه القضية وإنّما جعل إليهما سطرا في كتاب الله والسنّة على أيّهم أدلّ فقط، فتركا ذلك البتّة.
ثمّ ابتدءا بابا آخر لم يجر لهما ذكره ولا وقع عليه شرط؛ فلو ان أبا موسى قال: «قد صرفتها إلى ابن عمر» ، وقال عمرو: «قد صرفتها الى ابني عبد الله إبن عمرو ما كان إلّا كقول ابي موسى، وهذا عند جميع من شهد القضية خلاف ما وقع عليه شرط القضية، وهما- حفظك الله- لم يحكما على ان لهما ان نحرجاها إلى من أحبّا وإنّما جعل إليهما في ظاهر الكتاب أن يجتمعا على أحد الرجلين اللذين حكّماهما، فأمّا ان يقول له عمرو وهو يعرف رأيه في عمر وميله إلى ابن عمر: «ما لهذا الأمر خير من رجل لم يخض في الفتنة، له صحبة ولم يتلطّخ بالدماء وليست قبله تباعة ولا ضغينة، فيكون مرضيّا ابن مرضيّ» ثمّ توهّمه ذلك ليسكن إليه ويظهر أن الرأي في وضع شورى بين من كان هذا شكله وهذا صفته، وهذا خروج من حدّ القضية، وقد صارا حينئذ يختاران للأمّة، فلا يثبت ذلك الحكم منهما إلّا أن يكونا عن توكيل منهما لهما، أو يكون لأنّ مكانهما من الإسلام أن يضعا الإمامة حيث أحبّا؛ وإذا كانا كذلك فهما أحق بالإمامة ممّن يريان إقامته وتقويمه، فلا الأمّة وكّلتهما ولا مكانهما هذا المكان والحمد لله.
ووجه آخر تستدلّ به على صواب ما قلنا وتعرف به صحّة ما فسّرنا: كأن قائلا قال: كان عليّ قد كان علم انّ عمرا وأبا موسى يوم القضيّة وفي تلك الحال لم يكونا عند أهل العراق وأهل الحجاز عدلين مرضيين، وإذا لم يكونا مرضيين لم يكونا شاهدين، وإذا كانا بعيدين من جواز الشهادة كانا من جواز الحكم أبعد؛ فأظهر عليّ قولا يتوهّم المتوهّم معه أنه قد رضي بحكم عمرو وقد علم انّ في قلوب اصحابه منه ومن سقوط عدالته ما فيها، وعلم انّ عمرا وأبا موسى [إن] اجتمعا على الحكم له فقد كفي القيل والقال، وإن اجتمعا على معاوية، وعمرو عندهم لا يجوز حكمه، كان على دارس أمره، لأنّ الحكم كان مجعولا إليهما ولا باجتماعهما يقع؛ ولا يقع أن يلزم عليّا حكم عمرو لمعاوية ولا يلزم معاوية حكم ابي موسى لعليّ، وإنّما الشرط ان يجتمعا ومن اجتمعا عليه فله إنكار ذلك الحكم إذ كان واحد من لا تتم الحكومة إلّا به فاسد الحكم؛ وإنّما استجاز علي ان يظهر كلاما ما، يحتمل الحكم الفاسد لمكان التقية، وليس هذا التدبير كان معروفا عنده؛ وهذا- أبقاك الله- تدبير معجب ورأي مؤنق في هذا المكان وعند هذه البلية وعند الضيقة والتقية والخوف من الفتنة لا كتدبير معاوية في ذلك، فانّا لا نجد له في ذلك مذهبا مرضيّا ولا تدبيرا صحيحا.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)