المنشورات

فخر هاشم بالكرم

قال: وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح، فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؟ ومن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب؟ - وقد اعترضت الأموية هذا الموضع فقالت: إنما كان عبد الله بن جعفر يهب مما كان معاوية ويزيد يهبانه له، فمن فضل جودنا جاد، قالوا: ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم، وابنه يزيد أول من ضاعف ذلك. فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابني علي في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم، وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر، فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: إن أمير المؤمنين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم؟ قال: فلك ألفا ألف درهم! فقال: بأبي أنت وأمي؟ أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك! قال: فلك أربعة آلاف ألف درهم- وهذا الاعتراض ساقط، لأن [هذا] إن صح لم يعد جودا ولا جائزة ولا صلة رحم، هؤلاء قوم كان يخافهم على ملكه ويعرف حقهم فيه وموقعهم من قلوب الأمة، فكان يدبر في ذلك تدبيرا ويريغ أمورا ويصانع عن دولته وملكه. ونحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم وكتابهم وبني عمهم جودا، فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف فما عد ذلك منه مكرمة، وكذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة واستمالة القلوب وتدبير الدولة، وإنما يكون الجود ما يدفعه الملوك إلى الوفود والخطباء والشعراء والأشراف والأدباء والسمار ونحوه؟ ولولا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده! فالعمالات شيء والإعطاء على دفع المكروه شيء، والتفضل والجود شيء.
ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو بعض حقهم، والذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما. وإن أريد الموازنة بين ملوك بني العباس وملوك بني أمية في العطاء افتضح بنو أمية وناصروهم فضيحة ظاهرة. فإن نساء خلفاء بني العباس اكثر معروفا من رجال بني أمية، ولو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لآتى ذلك على جميع صنائع بني مروان. وذلك معروف. ولو ذكرت معروف الخيزران وسلسبيل لملأت الطوامير الكثيرة به، وما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم. وإن شئت أن تذكر مواليهم وكتابهم فاذكر عيسى بن ماهان، وابنه عليا، وخالد بن برمك، وابنه يحيى، وابنيه جعفرا والفضل، وكاتبهم منصور بن زيدا، ومحمد بن منصور فتى العسكر، فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس.
فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام- وكان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك- وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته. وكان المنصور إذا ذكرهم يقول: كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد مجنونا، وكان سليمان همه بطنه وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. وكان لا يذكر ابن عاتكة. ولقد كان هشام- مع ما استثناه به- يقال هو الأحول السراق، ما زال يدخل أعطيات الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة. وأنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها «الحمد لله الوهوب المجزل» فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال «والشمس في الأفق كعين الأحول» فأمر بوجء عنقه وإخراجه. وهذا ضعف شديد وجهل عظيم. وقال خاله ابراهيم بن هشام المخزومي: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين: حدا به الحادي مرة فقال:
إنّ عليك أيها البختيّ ... أكرم من تمشي به المطيّ
فقال: صدقت! وقال مرة: والله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك! وهذا ضعف شديد وجهل مفرط.
قال أبو عثمان: وكان هشام يقول: والله إني لأستحي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم. ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده وتوسعه. وإنما اشترى بها ملكه وحصن بها عن نفسه وما في يديه. قال له أخوه مسلمة: أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان؟ فقال:
ولكني حليم عفيف. فاعترف بالجبن والبخل. وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما؟ وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم والتغرير الشديد، ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب. ولقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله: أعور بين عميان. وزعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا، فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلده وصب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات حتى كز فمات، فما أقر بدمه ولا خرج لوليه من حقه ولا أعطى عقلا ولا قودا، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه فيقال كان مطيعا بإقامتها وأنه أزهق الحد نفسه؟ واحسبوا الضرب كان أدبا وتعزيرا فما عذره في الماء البارد في الشتاء على إثر جلد شديد؟ ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه فقال لرجاء بن حيوة في بعض ما يدخل وما يخرج من شأنه: نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر وتشير بي في هذا الشأن فوالله مالي عليه من طاقة؟ فقال له رجاء: قاتلك الله ما أحرصك عليها! ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد:
مات الحجاج يا أبا حفص؟ فقال: وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت؟
وقال في خلافته: لولا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق، وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر، وبين سالم بن عبد الله بن عمر. فما كان عليه من الضرر والحرج، وكان عليه من الوكف والنقص لو قال: بين علي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين بن علي؟ على أنه لم يرد التيمي ولا العدوى، وإنما دبر الأمر للأموي. ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبى بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم:؟ وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه وموضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة وقال له: إلحق بأهلك فإنك لم تغنمهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك، أخاف عليك طواعين الشام، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب. وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه فلعله أن يبذر في قلوبهم بذرا، ويغرس في صدورهم غرسا. وكان أعظم خلق الله قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية ويربي على كل ذي غاية صاحب شنعة، وكان يصنع في ذلك الكتب مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر. وقال له شوذب الخارجي: لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة؟
فقال عمر: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي به عهد. قال: أفيسعك أن تمسك عن لعن فرعون ولا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي!؟؟ فرأى أنه قد خصمه وقطع حجته، وكذلك يظن كل من قصر عن مقدار العالم وجاوز مقدار الجاهل! وأي شبه لفرعون بآل مروان وآل أبي سفيان؟ هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم، وفرعون على خلاف ذلك وضده، لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة؟ ثم إن عمر ظنين في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم. وشوذب ليس بظنين في أمر فرعون. وليس الإمساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج. فكيف استويا عنده!؟. وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا وعيالا كثيرا فاعتل عليه، فقال له: هلا اعتللت على عبد الله بن الحسن؟ قال: ومتى شاورتك في أمري؟ قال: أو مشيرا تراني؟ قال:
وهل أعطيته إلا بعض حقه؟ قال: ولم قصرت عن كله؟! فأمر باخراجه وما زال إلى أن مات محروما منه. وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه.
والذي حسن أمره وشبه على الأغبياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالاسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه وآلفوه عليه.
فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة، في عداد الأئمة الراشدين. وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا على منابرهم فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا. 
ويشهد لذلك قول كثير فيه:
وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف ... بريّا ولم تتبع مقالة مجرم
وهذا الشعر يدل على أن شتم علي قد كان لهم عادة حتى مدح من كف عنه. ولما ولى خالد بن عبد الله القسري مكة- وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن والحسين- قال عبيد الله بن كثير السهمي:
لعن الله من يسبّ عليّا ... وحسينا من سوقة وإمام
أيسبّ المطهّرون جدودا ... والكرام الأباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يأ ... من آل الرسول عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا ... أهل بيت النّبيّ والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم ... كلّما قام قائم بسلام
وقام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان- وكان ممن يتأله بزعمهم- إلى هشام بن عبد الملك وهو يخطب على المنبر بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب؟ فقال هشام: ليس لهذا جئنا. ألا ترى أن ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا؟ وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا ويقول: قتل جديّ جميعا الزبير وعثمان. وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان: قم فالعن عليّا؟ فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنه الله- وهو يضمر المغيرة.
وأما عبد الملك فحسبك من جهله تبديل شرائع الدين والإسلام وهو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه! وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بني هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب على منابره ويرمى بالفجور في مجالسه، وهذا قرة عين عدوه وعير عين وليه، وحسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة قائلا إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف، ولا بالخليفة المداهن، ولا بالخليفة المأفون. وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقديمهم وتأسيسهم نال تلك الرئاسة، ولولا القادة المتقدمة والأجناد المجندة والصنائع القائمة لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام وأقربهم إلى الهلكة إن رام ذلك الشرف. وعنى بالمستضعف عثمان، وبالمداهن معاوية، وبالمأفون يزيد بن معاوية. وهذا الكلام نقض لسلطانه، وعداوة لأهله، وإفساد لقلوب شيعته، ولو لم يكن من عجز رأيه إلا انه لم يقدر على إظهار قوته إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه ... فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید