المنشورات

جواب هاشم الأخير: لا تسوية بيننا

قالت هاشم:
قلتم: لولا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم. فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب ويتفرقون في حسب الأنفس. وربما استووا في حسب أبي القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة، ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤى وعمر بن لؤى، وكاختلاف أبناء قصي عبد مناف وعبد الدار وعبد العزي.
والقوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه ويفارقونهم في وجوه ويستجيزون بذلك القدر مناكحتهم وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم. وقد يزوج السيد ابن أخيه وهو حارض بن حارض، على وجه صلة الرحم فيكون ذلك جائزا عندهم. ووجوه في هذا الباب كثيرة. فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه وإن كنا قد زوجناكم وساويناكم في بعض الآباء والأجداد وبعد، فأنتم في الجاهلية والإسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب: أفتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين؟
وأما قولكم إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف. فقد كان يقال لهما ايضا مع غيرهما من قريش وبنيها: بنو النضر. وقال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
فلم يدع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من بني عبد شمس، وكانت عشيرته الأقربون بني هاشم وبني عبد المطلب، وعشيرته فوق ذلك عبد مناف، وفوق ذلك قصي. ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن شمس، وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم قال: هذا أشبه بنا منه بكم. ثم تفل في فيه فازدرده، فقال: أرجو أن تكون مسقيا. فكان كما قال: ففي قوله: هو أشبه بنا منه بكم. خصلتان إحداهما أن عبد شمس وهاشما لو كانا شيئا واحدا كما أن بني عبد المطلب شيء واحد لما قال هو بنا أشبه به منكم. والأخرى إن في هذا القول تفضيلا لبني هاشم على بني عبد شمس، ألا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا وسيدا مسقيا له مصانع وآثار كريمة! لأنه قال: هو بنا أشبه به منكم؟.
وأتى عبد المطلب بعامر بن كريز- وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء- فتأمله وقال:
وعظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه. فكان كما قال. ولم يقل: وعظام عبد مناف. لأن شرف جده عبد مناف له فيه شركاء، وشرف هاشم أبيه خالص له.
وأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان وخالد بن سعيد: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟ فهذه الكلمة كلمة تحريض وتهييج، فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب وأن يجمعهم على واحد، وإن كانا مفترقين. وهذا المذهب سديد وهذا التدبير صحيح. قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة وهو نهشلي، وللفرزدق بن غالب وهو مجاشعي، ولمسكين بن أنيف وهو عبدلي: أرضيتم معشر بني دارم أن يسب آباءكم ويشتم أعراضكم كلب بني كلب؟ وإنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المشتمل على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية ويتفقوا على الأنف، وهذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح.
قالوا: ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صفين. قال حسان بن ثابت لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
وأنت منوط نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الرّاكب القدح الفرد
ولم يقل: نيط في آل عبد مناف! وقال آخر: 
ما أنت من هاشم في بيت مكرمة ... ولا بنى جمح الخضر الجلاعيد
ولم يقل: ما أنت من آل عبد مناف. وكيف يقولون هذا وقد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة: هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا؟ وأن هاشما والمطلب كانا يدا واحدة، وأن عبد شمس ونوفلا كانا يدا واحدة. وكان مما أبطأ ببني نوفل عن الإسلام إبطاء إخوتهم من بني عبد شمس، وكان مما حث بني المطلب على الإسلام فضل محبتهم لبني هاشم. لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم كان بينا، وإنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد والبغضة. فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الإسلام مانع. ولذلك لم يصحب النبي صلّى الله عليه وسلم من بني نوفل أحد، فضلا عن أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة، وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه، وعتبة بن غزوان وغيرهما. وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدري: عبيدة وطفيل وحصين. ومن بني المطلب:
مسطح بن أثاثة بدري؟ وكيف يكون الأمر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي لما تمالأت قريش عليه:
جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلا ... جزاء مسيء عاجلا غير آجل
أمطعم إمّا سامني القوم خطّة ... فإنّي متى أوكل فلست بآكلّيّ
أمطعم لم أخذ لك في يوم شدّة ... ولا مشهد عند الأمور الجلائل
ولقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة فجعلها في بني هاشم وبني المطلب فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا له: يا رسول الله إن قرابتنا منك وقرابة بني المطلب واحدة، فكيف أعطيتهم دوننا؟ فقال النبي: إنا لم نزل وبني المطلب كهاتين. وشبك بين أصابعه. فكيف تقولون كنا شيئا واحدا، وكان الاسم الذي يجمعنا واحدا؟؟
قالت هاشم:
وإن كان الفخر بالأيد والقوة واهتصار الأقران ومباطشة الرجال، فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية! وقد سمعتم أخباره وأنه قبض على درع فاضلة فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله. وسمعتم حديث الأيد القوي الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب، وأن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع فكأنما يحرك جبلا، وأن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه فوق رأسه ثم جلد به الأرض. هذا مع الشجاعة المشهورة والفقه في الدين والحلم والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والإخبار عن الغيوب حتى ادعى له أنه المهدي. وقد سمعتم أحاديث أبي اسحق المعتصم وأن أحمد بن أبي دؤاد عض ساعده بأسنانه أشد العض فلم يؤثر فيه، وأنه قال: ما أظن الأسنة ولا السهام تؤثر في جسده؟! وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الأوجه وسجاحة الأخلاق، فمن مثل علي بن أبي طالب؟ وقد بلغ من سجاحة خلقه وطلاقة وجهه أن عيب بالدعابة. ومن الذي يسوى بين عبد شمس وهاشم في ذلك! كان الوليد جبارا، وكان هشام شرس الأخلاق، وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا، وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص. وكان المهدي بن المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خلقا، وكذلك محمد الأمين وأخوه المأمون. وكان السفاح يضرب به المثل في السّرو وسجاحة الخلق.
قالوا: ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله. منا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان شجاعا [جريئا] ، وهو الذي ولى الموصل لأخيه السفاح فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم. ومنا يعقوب بن ابراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، كان شاعرا فصيحا، وهو المعروف بأبي الأسباط. ومنا محمد وجعفر ابنا سليمان بن علي، كانا أعظم من ملوك بني أمية وأجل قدرا وأكثر أموالا ومكانا عند الناس. وأهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام من ذهب وزنه ألف مثقال مملوء مسكا. وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة، فكم يكون ليت شعري غيرهم من البيض ومن الإماء! وما رؤى جعفر بن محمد راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة. ومن رجالنا محمد بن السفاح، كان جوادا أيّدا شديد البطش. قالوا: ما رؤى أخوان أشد قوة من محمد وريطة أخته ولدى أبي العباس السفاح، كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده. ومن رجالنا محمد بن ابراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا، كان ناسكا عابدا فقيها عظيم القدر عند أهل بيته وعند الزيدية. ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو الذي شيد ملك المنصور وحارب ابنى عبد الله بن حسن وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه، وكان فصيحا أديبا شاعرا.
ومن رجالنا عبد الوهاب بن ابراهيم الامام، حج بالناس ووليّ الشام، وكان فصيحا خطيبا. ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادي، كان أكرم الناس، وجوادا ممدّحا أديبا شاعرا. وأخوه علي بن موسى الهادي، كان أكرم الناس وأجود الناس، كان يلبس الثياب وقد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه.
وعبد الله بن احمد بن عبد الله بن موسى الهادي، كان أديبا ظريفا.
قالوا: وقلتم: لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء. ونحن نقول: لنا زبيدة بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء: جدها المنصور خليفة، وعم أبيها السفاح خليفة، وعمها المهدي خليفة، وابن عمها الهادي خليفة، وبعلها الرشيد خليفة، وابنها الأمين خليفة، وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان.
قالوا: وأما ما ذكرتم من الأعياص والعنابس، فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا لهذه التسمية، وإنما سموا الأعياص لمكان العيص، وأبى العيص، والعاص وأبى العاص. وهذه أسماؤهم الأعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة ولا خسيسة. وأما العنابس. فانما سموا بذلك لأن حرب بن أمية كان اسمه عنبسة، وأما حرب فلقبه. ولما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه فقيل «العنابس» كما يقال «المهالبة» و «المناذرة» ولهذا المعنى سمى أبو سفيان بن حرب: ابن عنبسة. وسمى سعيد بن العاص: ابن عنبسة.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید