المنشورات
الغاية من وضع الكتاب
إن ذهبنا حفظك الله بعقب هذه الاحتجاجات، وعند مقطع هذه الاستدلالات، نستعمل هذه المعارضة بمناقب الأتراك، والموازنة بين خصالهم وخصال كلّ صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أصحاب الخصومات في كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم.
وكتابنا هذا إنّما تكلّفناه لنؤلّف بين قلوبهم التي كانت مختلفة، ولنزيد الألفة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتّفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التفاوت في النسب، وكم مقدار الخلاف في الحسب، فلا يغيّر بعضهم مغيّر، ولا يفسده عدوّ بأباطيل مموّهة وشبها مزوّرة؛ فإنّ المنافق العليم، والعدوّ ذا الكيد العظيم، قد يصوّر لهم الباطل في صورة الحقّ، ويلبس الاضاعة ثياب الحزم. إلا أنّا على حال سنذكر جملا من أحاديث رويناها ووعيناها، وأمور رأيناها وشاهدناها، وفضائل تلقّفناها من أفواه الرجال وسمعناها.
وسنذكر جميع ما في هذه الأصناف من الآلات والأدوات، ثم ننظر أيّهم لها أشدّ استعمالا، وبها أشدّ استقلالا، ومن أثقب كيسا وأفتح عينا وأذكى يقينا، وابعد غورا وأجمع أمرا، وأعمّ خواطر وأكثر غرائب، وأبدع طريقا، وأدوم نفعا في الحروب؛ وأضرى وأدرب دربة، وأغمض مكيدة، وأشدّ احتراسا وألطف احتيالا؛ حتّى يكون الخيار في يد الناظر المتصفّح لمعانيه، والمقلّب لوجوهه، والمفكّر في أبوابه، والمقابل بين أوّله وآخره، فلا نكون نحن انتحلنا شيئا دون شيء، وتقلّدنا تفضيل بعض على بعض، بل [لعلّنا أن لا] نخبر عن خاصّة ما عندنا بحرف واحد.
فإذا دبّرنا كتابنا هذا التدبير، وكان موضوعه على هذه الصّفة، كان أبعد له من مذاهب الجدال والمراء، واستعمال الهوى.
وقد ظنّ ناس أنّ أسماء أصناف الأجناس كما اختلفت في الصّورة والخطّ والهجاء، أن حقائقها ومعانيها على حسب ذلك. وليس الأمر على حسب ما توهّمه؛ ألا ترى أنّ اسم الشّاكريّة وإن خالف في الصّورة والهجاء اسم الجند، فإنّ المعنى فيهما ليس ببعيد؛ لأنّهم يرجعون إلى معنى واحد وعمل واحد. والذي يرجعون إليه طاعة الخلفاء، وتأييد السلطان.
وإذا كان المولى منقولا الى العرب في أكثر المعاني، ومجعولا منهم في عامّة الأسباب، لم يكن ذلك بأعجب ممّن جعل الخال والدا، والحليف من الصّميم، وابن الأخت من القوم.
وقد جعل إبن الملاعنة المولود على فراش البعل منسوبا الى أمّه.
وقد جعلوا اسماعيل وهو ابن عجميّين عربيّا؛ لأنّ الله تعالى فتق لهاته بالعربيّة المبينة على غير التلقين والترتيب، ثمّ فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوّ والتّقدير، وسلخ طباعه من طبائع العجم، ونقل إلى بدنه تلك الأجزاء، [وركّبه اختراعا] على ذلك التركيب، وسوّاه تلك التسوية، وصاغه تلك الصّياغة، ثم حباه من طبائعهم ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم على أكرمها وأمكنها، وأشرفها وأعلاها، وجعل ذلك برهانا على رسالته، ودليلا على نبوّته؛ فكان أحقّ بذلك النّسب، وأولى بشرف ذلك الحسب.
وكما جعل ابراهيم أبا لمن لم يلده، فالبنويّ خراسانيّ من جهة الولادة، والمولى عربيّ من جهة المدّعى والعاقلة. وإن أحاط علمنا بأنّ زيدا لم يخلق من نجل عمرو إلّا عهارا لنفيناه عنه، وإن وثقنا أنّه لم يخلق من صلبه.
وكما جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أزواجه أمّهات المؤمنين وهنّ لم يلدنهم ولا أرضعنهم، وفي بعض القراءات: (وأزواجه أمّهاتهم وهو أب لهم) ، على قوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ
. وجعل المرأة من جهة الرّضاع أمّا، وجعل [امرأة] البعل أمّ ولد البعل من غيرها، [وجعل] الرابّ والدا، وجل العمّ أبا [في كتاب الله] . وهم عبيده لا يتقلّبون إلّا فيما قلّبهم فيه. وله أن يجعل من عباده من شاء عربيّا ومن شاء عجميّا، ومن شاء قرشيّا، ومن شاء زنجيّا؛ كما له أن يجعل من شاء ذكرا ومن شاء أنثى، [ومن شاء خنثى] ، ومن شاء أفرده من ذلك فجعله لا ذكرا ولا أنثى ولا خنثى.
وكذلك خلق الملائكة وهم أكرم على الله من جميع الخليقة. وخلق آدم فلم يجعل له أبا ولا أمّا، وخلقه من طين ونسبه اليه، وخلق حوّاء من ضلع آدم وجعلها له زوجا وسكنا. وخلق عيسى من غير ذكر ونسبه إلى أمّه التي خلقه منها. وخلق الجانّ من نار السّموم، وآدم من طين، وعيسى من غير نطفة. وخلق السّماء من دخان، والأرض من الماء، وخلق اسحاق من عاقر. وأنطق عيسى في المهد، وأنطق يحيى بالحكمة وهو صغير، وعلّم سليمان منطق الطّير، وكلام النّمل، وعلّم الحفظة من الملائكة جميع الألسنة حتّى كتبوا بكلّ خطّ، ونطقوا بكلّ لسان. وأنطق ذئب أهبان بن أوس.
والمؤمنون من جميع الأمم إذا دخلوا الجنّة، وكذلك أطفالهم والمجانين [منهم] ، يتكلّمون ساعة يدخلون الجنة بلسان أهل الجنّة، على غير الترتيب والتنزيل، والتعليم على طول الأيّام والتا؟؟ ين. فكيف يتعجّب الجاهلون من [نطق] اسماعيل بالعربية على غير تعليم الآباء، وتأديب الحواضن؟! وهذه المسألة ربّما سأل عنها بعض القحطانية، ممن لا علم له، بعض العدنانية، وهي على القحطانيّ أشدّ. فأمّا جواب العدنانيّ فسلس النّظام سهل المخرج، قريب المعنى؛ لأنّ بني قحطان لا يدّعون لقحطان نبوّة فيعطيه الله مثل هذه الأعجوبة.
وما الذي قسم الله- عزّ اسمه- بين الناس من ذلك، إلّا كما صنع في طينة الأرض، فجعل بعضها حجرا، وبعض الحجر ياقوتا، وبعضه ذهبا، وبعضه نحاسا، وبعضه رصاصا، وبعضه حديدا، وبعضه ترابا، وبعضه فخّارا. وكذلك الزّاج، والمغرة، والزّرنيخ، والمرتك، والكبريت، والقار والتّوتيا، والنوشادر، والمرقشيثا، والمغناطيس.
ومن يحصى عددا أجزاء الأرض، وأصناف الفلزّ؟!
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنويّ خراسانيّ. وإذا كان الخرسانيّ موليّ، والمولى عربيّ- فقد صار الخرسانيّ والبنويّ والمولى والعربيّ واحدا.
وأدنى ذلك أن يكون الذي معهم من خصال الوفاق غامرا ما معهم من خصال الخلاف، بل هم في معظم الأمر وفي كبر الشّأن وعمود النّسب متّفقون. والأتراك خراسانية وموالي الخلفاء قصرة، فقد صار التركيّ الى الجميع راجعا، وصار شرفه إلى شرفهم زائدا.
وإذا عرف سائر ذلك سامحت النّفوس، وذهب التّعقيد، ومات الضّغن، وانقطع سبب الاستثقال؛ فلم يبق إلّا التحاسد والتّنافس الذي لا يزال يكون بين المتقاربين في القرابة وفي المجاورة.
على أنّ التّوازر والتسالم في الرابات وفي بني الأعمام والعشائر، أفشى وأعمّ من البعداء.
ولخوف التّخاذل ولحبّ التناصر، والحاجة إلى التّعاون- انضمّ بعض القبائل في البوادي الى بعض، ينزلون معا ويظعنون معا. ومن فارق أصحابه أقلّ، [و] من نصر ابن عمّه أثر. ومن اغتبط بنعمته وتمنّى بقاءها والزيادة فيها اكثر ممّن بغاها الغوائل، وطلب انقطاعها وزوالها. ولا بدّ في أضعاف ذلك من بعض التّنافس والتخاذل، إلّا أنّ ذلك قليل من كثير.
وليس يجوز أن تصفو الدّنيا وتنقى من الفساد والمكروه حتّى يموت جميع الخلائق، وتستوي لأهلها، وتتمهّد لسكّانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)