المنشورات
خصال السودان
قالوا: والناس مجمعون على أنّه ليس في الأرض أمّة السّخاء فيها أعمّ، وعليها أغلب من الزّنج. وهاتان الخلّتان لم توجدا قطّ إلّا في كريم.
وهي أطبع الخلق على الرّقص الموقّع الموزون، والضّرب بالطّبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديب ولا تعليم.
وليس في الأرض أحسن حلوقا منهم. وليس في الأرض لغة أخفّ على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قوم أذرب ألسنة، ولا أقلّ تمطيطا منهم.
وليس في الأرض قوم إلّا وأنت تصيب فيهم الأرتّ والفأفاء والعييّ، ومن في لسانه حبسة، غيرهم.
والرجل منهم يخطب عند الملك بالزّنج من لدن طلوع الشّمس إلى غروبها، فلا يستعين بالتفاتة ولا بسكتة حتّى يفرغ من كلامه.
وليس في الأرض أمّة في شدّة الأبدان وقوّة الأسر أعمّ منهم فيهما.
وإنّ الرّجل ليرفع الحجر الثّقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم. وهم شجعاء أشداء الأبدان أسخياء. وهذه هي خصال الشرف.
[والزنجيّ] مع حسن الخلق وقلّة الأذى، لا تراه أبدا إلّا طيّب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّن. وهذا هو الشرف.
وقد قال ناس: إنّهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر رويّاتهم، ولجهلهم بالعواقب.
فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السّخاء والأثرة، وينبغي في هذا القياس أن يكون أوفر النّاس عقلا وأكثر النّاس علما أبخل النّاس بخلا وأقلّهم خيرا.
وقد رأينا الصّقالبة أبخل من الرّوم، والرّوم أبعد رويّة وأشدّ عقولا وعلى قياس قولكم أن قد كان ينبغي أن تكون الصّقالبة أسخى أنفسا وأسمح أكفّا منهم.
وقد رأينا النّساء أضعف من الرّجال عقولا، والصّبيان أضعف عقولا منهم، وهم أبخل من النّساء، والنّساء أضعف عقولا من الرجال. ولو كان العقل كلّما كان أشدّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصبيّ أكرم الناس خصالا. ولا نعلم في الأرض شرّا من صبيّ: هو أكذب النّاس وأنمّ النّاس، وأشره النّاس وأبخل النّاس، وأقلّ النّاس خيرا وأقسى الناس قسوة.
وإنّما يخرج الصبيّ من هذه الخلال أوّلا فأوّلا، على قدر ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة.
فكيف صارت قلّة العقل [هي] سبب سخاء الزّنج، وقد أقررتم لهم بالسّخاء ثم ادّعيتم ما لا يعرف. وقد وقّفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصّحيح.
وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشّجاع، والغادر أعقل من الوفيّ. وينبغي أن يكون الجزوع أعقل من الصّبور. فهذا ما لا حجّة فيه لكم، بل ذلك هبة في النّاس من الله. والعقل هبة، وحسن الخلق هبة، والسّخاء والشجاعة كذلك.
وقد قالت الزّنج للعرب: من جهلكم أنّكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلمّا جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدا، و [ما] بنا الرّغبة عنكم. مع أنّ البادية منّا ملأى ممّن قد تزوّج ورأس وساد، ومنع الذّمار، وكنفكم من العدوّ.
قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظّمتم أمر ملوكنا، وقدّمتموهم في كثير من المواضع على ملوككم. ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم.
وقال النّمر بن تولب:
أتى ملكه ما أتى تبّعا ... وأبرهة الملك الأعظما
فرفعه على ملوك قومه.
وقال لبيد بن ربيعة:
لو كان حيّ في الحياة مخلّدّا ... في الدّهر أدركه أبو يكسوم
وهذا شيء من وصف الفضل لم يوصف أحد بمثله.
قالوا: ومما قدّمتم به ملوكنا على ملوككم قوله:
غلب الليالي خلف آل محرّق ... وكما فعلن بتبّع وبهر قل
وغلبن أبرهة الذي ألفيته ... قد كان خلّد فوق غرفة موكل
فقدّم أبرهة وأراد التّسوية.
قالوا: ومن الحبشة عكيم الحبشيّ، وكان أفصح من العجّاج. وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه كما أخذ علماء أهل العراق من المنتجع بن نبهان.
وكان المنتجع سنديّا في أذنه خربة، وقع إلى البادية وهو صبيّ، فخرج أفصح من رؤبة.
ولما قال حكيم بن عيّاش الكلبيّ:
لا تفخرنّ بخال من بني أسد ... فإنّ أكرم منها الزّنج والنّوب
اعترض عليه عكيم الحبشيّ، فقال:
ويوم غمدان كنّا الأسد قد علموا ... ويوم يثرب كنّا فحلة العرب
وليلة الفيل إذ طارت قلوبهم ... وكلّهم هارب موف على قتب
منّا النّجاشي وذو العقصين صهركم ... وجدّ أبرهة الحامي أبي طلب
هبني غفرت لعدنان تهتكهم ... فما لحمير والمقوال في النسب
حمّارة جمعت من كلّ محربة ... جمع الشّبيكة نون الزّاخر اللّجب
غمدان: حصن كان ينزله الملك الذي يكون على اليمن، وكان عجميّا، فلما ملكت الحبشة اليمن أخربته إلّا بقايا هدمها عثمان بن عفّان رضي الله عنه في الإسلام. وقال: «ينبغي لمآثر الجاهليّة أن تمحى» . وكان في الحصن مصنعة عليها قبة من طلق، وفيها يقول خلف الأحمر:
ومصنعة الطّلق أودى بها ... عوادي الأحابيش بالصّيدن
وفيها يقول قدامة حكيم المشرق، وكان صاحب كيمياء:
فأوقد فيها ناره ولو أنّها ... أقامت كعمر الدهر لم تتصرّم
لأنّ الطّلق لو أوقد عليه ألف عام لم يسخن. وبه يتطلّى النّفّاطون إذا أرادوا الدّخول في النار.
وقال لبيد:
أصاح ترى بريقا هبّ وهنا ... كمصباح الشّعيلة في الذّبال
أرقت له وأنجد بعد هدء ... وأصحابي على شعب الرّحال
يضيء ربابه في المزن حبشا ... قياما بالحراب وبالإلال
وقال ذلك لبيد لأنّهم إذا أقبلوا بحرابهم ورماحهم وقسيّهم وسيوفهم، وراياتهم، وخيولهم وفيولهم، مع سواد ألوانهم وضخم أبدانهم- رأيت هؤلا لم تر مثله ولم تسمع به، ولم تتوهّمه.
وأمّا قوله:
ويوم يثرب كنّا فحلة العرب
فإنّ مسرف بن عقبة المرّيّ، حين كان أباح المدينة، زعموا أنّه قد كان هناك أمر قبيح من السودان والجند؛ وفي ذلك يقول شاعر من شعراء مضر:
فسائل مسرف المرّيّ عنكم ... غداة أباح للجند العذاري
فما زجكم على حنق زنوج ... وفزّ الشّام كالأسد الضّواري
ودافع وهرز والفرس عنكم ... ورأس الحبش يحكم في ذمار
فأفسد نسلكم بسواد لون ... وأير مثل غرمول الحمار
فذكر إباحة الحبش لليمن كما ذكر إباحة مسرف للمدينة.
وأمّا قوله:
حمّارة جمعت من كلّ محزوة ... جمع الشّبيكة نون الزاخر اللّجب
فإنّه ذهب إلى ما تقول الرّواة أنّ حمير كانت حمّارة.
وأمّا الشّبيكة فأراد الشبكة.
وقال السّران: فهذا الفضل فينا، ولم يصلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قط إلّا على جنازة أو قبر، إلّا النّجاشيّ فإنّه صلّى عليه وهو بالمدينة وقبر النّجاشيّ بالحبشة.
قالوا: والنجاشيّ هو كان زوّج أمّ حبيبة بنت أبي سفيان من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا خالد بن سعيد فجعله وليّهما، وأصدق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أربعمائة دينار.
قالوا: وثلاثة أشياء جاءتكم من قبلنا. منها الغالية. وهي أطيب الطّيب وأفخره وأكرمه. ومنها النّعش وهو أستر للنّساء وأصون للحرم. ومنها المصحف، وهو أوقى لما فيه وأحصن له، وأبهى وأهيأ.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)