المنشورات
مزايا اللون الاسود
قالوا: ونحن أهول في الصّدور وأملا للعيون، كما أنّ المسودّة أهول في العيون وأملا للصّدور من المبيّضة، وكما أنّ الليل أهول من النهار.
قالوا: والسّواد أبدا أهول. وإنّ العرب لتصف الإبل فتقول: الصّهب سرع، والحمر غزر، والسّود بهى. فهذا في الإبل.
قالوا: ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السّود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى. والحمر السّود أثمن وأحسن وأقوى. وسود الشّاء أدسم ألبانا وأكثر زبدا، والدّبس أغزر من الحمر.
وكلّ جبل وكلّ حجر إذا كان أسود كان أصلب صلابة وأشدّ يبوسة.
والأسد الأسود لا يقوم له شيء.
وليس من التّمر شيء أحلى حلاوة من الأسود، ولا أعمّ منفعة ولا أبقى على الدّهر. والنّخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع.
وجاء: «عليكم بالسّواد الأعظم» ، وقال الأنصاريّ:
أدين وما ديني عليّ بمغرم ... ولكن على الشّمّ الطّوال القراوح
على كلّ خوار كأنّ جذوعها ... طلين بقار أو بدمّ ذبائح
قالوا: وأحسن الخضرة ما ضارع السّواد. قال الله جلّ وعلا: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ
، ثم قال لمّا وصفهما وشوّق إليهما: مُدْهامَّتانِ
قال ابن عباس: خضراوان من الرّيّ سوداوان.
وليس في الأرض عود أحسن خشبا ولا أغلى ثمنا، ولا أثقل وزنا ولا أسلم من القوادح، ولا أجدر أن ينشب فيه الخطّ من الآبنوس. ولقد بلغ من اكتنازه والتئامه وملوسته وشدّة تداخله، أنه يرسب في الماء دون جميع العيدان والخشب. ولقد غلب بذلك بعض الحجارة؛ إذ صار يرسب وذلك الحجر لا يرسب.
والإنسان أحسن ما يكون في العين ما دام أسود الشعر. وكذلك شعورهم في الجنّة.
وأكرم ما في الإنسان حدقتاه؛ وهما سوداوان. وأكرم الأكحال الإثمد، وهو أسود. ولذلك جاء أنّ الله يدخل جميع المؤمنين الجنة جردا مردا مكحّلين.
وأنفع ما في الإنسان له كبده التي بها تصلح معدته، وينهضم طعامه، وبصلاح ذلك قام بدنه، والكبد سوداء.
وأنفس ما في الإنسان وأعزّه سويداء قلبه، وهي علقة سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدّماغ من الرأس.
ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما تكونان إذا ضارعتا السّواد.
وقال ذو الرّمّة:
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثاث وفي أنيابها شنب
وأطيب الظّلّ وأبرده ما كان أسود. وقال الراجز:
سود غرابيب كأظلال الحجر
وقال حميد بن ثور:
ظللنا إلى كهف وظلّت ركابنا ... إلى مستكفّات لهنّ غروب
إلى شجر ألمى الظّلال كأنّه ... رواهب أحرمن الشّراب عذوب
وجعل الله اللّيل سكنا وجماما، والنّهار للكسب والكدّ.
والذي يدلّ على أنّ السّواد في وجه آخر مقرون بالشدّة والصّرامة، والهيج والحركة، انتشار الحيّات والعقارب وشدّة سمومها باللّيل، وهيج السّباع واستكلابها باللّيل. وتحرّك الأوجاع وظهور الغيلان، هذه كلّها بالليل.
قال: وأشبهنا اللّيل من هذا الوجه.
قالوا: وأبلغ ما تكون القائلة وأشفاها للنّفس، وأسرع لمجيئها إذا أردتها، وأبطأ لذهابها إذا كرهتها، ما كان منها في الظّلمة، عند إسببال السّتور وإغلاق الأبواب.
قالوا: وليس لون أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد.
وقد جرى المثل في تبعيد الشيء: «لا ترى ذلك حتّى يبيّض القار، وحتّى يشيب الغراب» .
وهو العرض الملاء عند الحكماء.
وأكرم العطر المسك والعنبر، وهما أسودان.
وأصلب الأحجار سودها. وقال أبو دهبل الجمحيّ يمدح الأزرق المخزوميّ، وهو عبد الله بن عبد شمس بن المغيرة:
فإنّ شكرك عندي لا انقضاء له ... ما دام بالجزع من لبنان جلمود
أنت الممدح والمغلى به ثمنا ... إذ لا يعاتب صخر الجندل السّود
والعرب تفخر بسواد اللّون. فإن قال: فعلام ذلك وهي تقول: فلان هجان، وأزهر وأبيض، وأغرّ؟ قلنا: ليس تريد بهذا بياض الجلد، إنّما تريد به كرم الجوهر ونقاءه. وقد فخرت خضر محارب بأنّها سود، والسّود عند العرب الخضر. وقال الشّماخ بن ضرار:
وراحت رواحا من زرود فنازعت ... زبالة جلبابا من اللّيل أخضرا
وقال الراجز:
حتّى انتضاني الصّبح من ليل خضر ... مثل انتضاء البطل السيف الذّكر
وهم يسمّون الحديد أخضر لأنّه صلب؛ لأن الأخضر أسود.
وقال الحارث بن حلّزة:
إذ رفعنا الجمال من سعف البح ... رين سيرا حتى نهاها الحساء
فهزمنا جمع ابن أمّ قطام ... وله فارسيّة خضراء
وقال المحاربيّ وهو يفخر بأنّه من الخضر:
في خضر قيس نماني كلّ ذي فخر ... صعب المقادة آبي الضّيم شعشاع
وبنو المغيرة خضر بني مخزوم. قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخوميّ- ويقال إنّها للفضل بن العبّاس اللهبي:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدّلو إلى عقد الكرب
وخضر غسّان بنو جفنة الملوك؛ قال الغسّانيّ:
إنّ الخضارمة الخضر الذين ودوا ... أهل البريص نماني منهم الحكم
وقد ذكر حسان أو غيره الخضر من بني عكيم حين قال:
ولست من بني هاشم في بيت مكرمة ... ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السّادة دلما ضخما، نظر إليهم عامر بن الطّفيل يطوفون كأنّهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع السّدانة.
وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخما. وآل أبي طالب أشرف الخلق، وهم سود وأدم ودلم.
قالوا: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» .
وقد علمت أنّه لا يقال للزّنج والحبشة والنّوبة بيض ولا حمر، وليس لهم اسم إلّا السّود.
وقد علمنا أنّ الله عزّ وجل بعث نبيّه [إلى الناس] كافة، وإلى العرب والعجم جميعا. فإذا قال: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ولسنا عنده حمر ولا بيض، فقد بعث إلينا، فإنما عنانا بقوله «الأسود» . ولا يخرج الناس من هذين الاسمين، فإن كانت العرب من الأحمر، فقد دخلت في عداد الرّوم والصّقالبة، وفارس وخراسان. وإن كانت من السّود، فقد اشتقّ لها هذا الاسم من اسمنا. وإنما قيل لهم وهم أدم وسمر سود، حين دخلوا معنا في جملتنا، كما يجعل العرب الإناث من الذكور ذكورا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنّ الزّنج والحبشة والنّوبة ليسوا بحمر ولا بيض، وأنّهم سود، وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر، فقد جعلنا والعرب سواء، ونكون نحن السّود دونهم. فإن كان اسم أسود وقع علينا فنحن السّودان الخلّص، والعرب أشباه الخلّص. فنحن المتقدّمون في الدّعوة. وإذا كان اسمهم محمولا على اسمنا؛ إذ كنّا وحدنا يقال لنا سود، ولا يقال لهم سود إلّا أن يكونوا معنا.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)