المنشورات
كثرة عدد السودان واتساع بلدانهم
قالوا: وأنتم ترون كثرة العدد مجدا، ونحن أكثر النّاس عددا وولدا.
قالوا: ونحن صنفان: النّمل والكلاب.
قالوا: ولو عدلتم بالنّمل العرب كلّها لأربت عليها. فكيف إذا قرنت إليها الكلاب؟ ثم كيف إذا ضممتم إليها الحبشة والنّوبة وفزّان ومرو وزغاوة وغير ذلك من أنواع السّودان؟
وليست قحطان من عدنان في شيء. ونحن بالحبشة أشبه، وأرحامنا بهم أمسّ من عدنان بقحطان. وإن ذكرتم اختلاف اللّغات؛ فإنّ لغة عجز هوازن، وقد تختلف اللّغات والأصل واحد، وقد تتّفق والنّجر مختلف. ومن دخل أوائل خراسان وأواخرها، وأوائل الجبال وفارس وأواخرها، علم أنّ اللّغات قد تختلف لاختلاف طبائع البلدان والأصل واحد.
قالوا: وأنتم لم تروا الزّنج الذين هم الزنج قطّ، وإنّما رأيتم السّبي يجيء من سواحل قنبلة وغياضها وأوديتها، ومن مهنتنا وسفلتنا وعبيدنا، وليس لأهل قنبلة جمال ولا عقول. وقنبلة: اسم الموضع الذي تزفّون منه سفنكم إلى ساحله. لأنّ الزّنج ضربان: قنبلة ولنجوية، كما أنّ العرب ضربان: قحطان وعدنان. وأنتم لم تروا من أهل لنجوية أحدا قطّ، لا من السّواحل ولا من أهل الجوف، ولو رأيتموهم نسيتم الجمال والكمال.
فإن قلتم: وكيف ونحن لم نر زنجيّا قطّ له عقل صبيّ أو امرأة؟
قلنا لكم: ومتى رأيتم من سبى السّند والهند قوما لهم عقول وعلم وأدب وأخلاق حتّى تطلبوا ذلك فيما سقط إليكم من الزنج. وقد تعلمون ما في الهند من الحساب وعلم النجوم وأسرار الطّبّ، والخرط والنّجر، والتّصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة، فكيف لم يتّفق لكم مع كثرة ما سبيتم منهم واحد على هذه الصّفة، أو بعشر هذه الصّفة؟
فإن قلتم: أهل الشّرف والعقل والعلم إنّما ينزلون الواسطة، وبقرب دار الملك، وهؤلاء حاشية وأعلاج وأكره، ونزّال السّواحل والآجام والفيوض والجزائر، من أكار ومن صيّاد.
قلنا: وذلك من رأيتم ومن لم تروا منا. وجوابنا هو جوابكم لنا.
قالوا: ولو أنّ الزّنجيّ والزنجيّة إذا تناكحا بقيت أولادهما بعد الحيض والاحتلام ببلاد العراق، كانوا قد غلبوا على الدّار بالعدد والجلد، والعلم والتدبير، ولكنّ ولد الهنديّ والهنديّة، والروميّ والروميّة، والخراسانيّ والخراسانيّة، يبقون فيكم وفي بلادكم كبقاء آبائهم وأمّهاتهم، ولا يبقى ولد الزّنجيّين بعد الحيض والاحتلام. على اننا لا نصيب في عشرة آلاف، واحد يبلغ ما ذكرنا، إلّا أن يضرب الزنجيّ في غير الزّنجيات، والزّنجية في غير الزّنج. ولولا أنّ الزنجيّ والزّنجيّة قليلا ما يريدان من الغرائب والغرباء، لكنّا على حال سنرى لرجال الزّنج نسلا كثيرا. ولكنّ الزنجية لا تكاد تنشط لغير الزنجيّ.
قالوا: وكذلك البيضان منكم، لا يكادون ينشطون لطلب النّسل من الزّنجيات. والزّنجية أيضا من الزّنجيّ أسرع لقاحا منها من الأبيض.
قالوا: وأنتم لا تكادون تعدّون ممّن ولد له من صلبه مائة ولد إلّا أن يكون خليفة، فيكون ذلك لكثرة الطّروقة، ولا تجدون ذلك في سائركم.
والزّنج لا تستكثر هذا ولا تستعظمه؛ لكثرته في بلادهم، لأنّ الزنجية تلد نحوا من خمسين بطنا في نحو من خمسين عاما، في كلّ بطن اثنين، فيكون ذلك أكثر من تسعين. لأنّه يقال إنّ النساء لا يلدن إذا بلغن السّتين إلّا ما يحكى عن نساء قريش خاصّة.
والزّنج أحرص من خلق الله على نسائهم، ونساؤهم لهم كذلك، وهنّ أطيب من غيرهنّ.
قالوا: فتأمّلوا قولنا واحتجاجنا، فإنّا قد روينا الأخبار وقلنا الأشعار، وعرفناكم وعرفنا الأمم.
وقد كان الفرزدق أعلم النّاس بالنّساء، وكان قد جرّب الأجناس كلّها فلم يجد مثلهنّ، ولذلك تزوج أم مكيّة الزنجيّة وأقام عليها، وترك النّساء، للذي وجد عندها. وفي ذلك يقول:
يا ربّ خود من بنات الزّنج ... تمشي بتنّور شديد الوهج
أخثم مثل القدح الخلنج
وكانت دنانير بنت كعبوية الزّنجيّ عند أعشى سليم، وكانت شديدة السّواد، فرآها يوما وقد خضبت يديها بالحنّاء، واكتحلت بالإثمد، فقال:
تخضب كفّا بتكت من زندها ... فتخضب الحنّاء من مسودّها
كأنّها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
فلما سمعت ذلك قالت:
وأقبح من لوني سواد عجانه ... على بشر كالقلب أو هو أنصع
فسمّوه أسود، وصاح به الصبيّان فطلّقها. وقد كان صبيحة عرسها قال:
إنّ الدّنانير تكون سودا
فقالت:
بياض الرأس أقبح من سوادي ... وشيب الحاجبين هو الفضوح
فأمسك عنها حينا ثم عاودها، فلما فضحته طلّقها.
قالوا: وإن نظر البيضان إلى نساء السّودان بغير عين الشهوة فكذلك السّودان في نساء البيضان. على أنّ الشّهوات عادات وأكثرها تقليد. من ذلك أنّ أهل البصرة أشهى النّساء عندهم الهنديّات وبنات الهنديّات والأغوار. واليمن أشهى النّساء عندهم الحبشيّات وبنات الحبشيات. وأهل الشّام أشهى النّساء عندهم الرّوميّات وبنات الروميّات. وكلّ قوم فإنّما يشتهون جلبهم وسبيهم. إلّا الشاذّ، وليس على الشاذّ قياس.
قالوا: وأطيب الأفواه نكهة، وأشدّها عذوبة، وأكثرها ريقا؛ أفواه الزنج. والكلاب من بين السّباع أطيب أفواها منها.
قالوا: والسواد ملاوم للعين، وإذا اعتلّت فخيف عليها لم يكن لها دواء خير من القعود في الظّلمة وفي يد صاحبها خرقة سوداء. فالسّواد للإبصار، وخير ما في الإنسان البصر.
وقالوا: والسّودان أكثر من البيضان، لأنّ أكثر ما يعدّ البيضان فارس والجبال وخراسان، والرّوم والصّقالبة وفرنجة والأبر، وشيئا بعد ذلك قليلا غير كثير. والسّودان يعدّون الزّنج والحبشة، وفزّان وبربر، والقبط والنّوبة، وزغاوة ومرر، والسّند والهند، والقمار والدّبيلا، والصّين وماصين. والبحر أكثر من البرّ، وجزائر البحر ما بين الصّين والزّنج مملوءة سودانا، كسرنديب، وكله، وأمل، وزابج وجزائرها إلى الهند إلى الصين إلى كابل وتلك السواحل.
قالوا: وكان الأعمى الاشتيام يقول: السّودان أكثر من البيضان، والصّخر أكثر من الوحل، والرّمل أكثر من التّراب، والماء المالح أكثر من العذب.
قالوا: ومنّا العرب لا من البيضان؛ لقرب ألوانهم من ألواننا. والهند أسفر ألوانا من العرب، وهم من السّودان. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقد علم النّاس أنّ العرب ليست بحمر كما ذكرنا قبل هذا.
قال: فهذا المفخر لنا وللعرب على جميع البيضان إن أحبّت ذلك العرب؛ وإن كرهته فإنّ المفخر لنا بالذي ذكرنا على الجميع.
قالوا: ولولا لم نكثركم إلّا بالزابج وحدها لفضلناكم بهم فضلا مبينا؛ وذلك أنّ ملك الزابج إن غضب على أهل مملكة ولم يتّقوه بالخراج بعث ألف سنبوقة في كلّ سنبوقة ألف رجل على أن [لا] يجلدوهم ولا يقاتلوهم، ولكن يأمرهم أن يقيموا أبدا فيهم حتّى يتّقوهم بالخراج، فيكون ما يأكلون ويشربون ويغذون ويلبسون، أضرّ عليهم من مقدار الخراج المرار الكثيرة.
فإن اتّقوهم بالخراج وإلّا أرسل إليهم ألف سنبوقة أخرى، فلا يجد ذلك الملك بدّا من أن يتّقيه بكلّ ما طلب، ولا يأمن أن يغضب فيأتي عليه وعلى أهل مملكته.
قالوا: ولقد نزل ملك الزابج على خليج مرّة والخليج فراسخ في فراسخ، فبينا هو على مائدته وفي سرادقه على شاطىء الخليج، إذ سمع صارخة فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل. قالوا: امرأة سقط ابنها في هذا الخليج فأكله التمساح. قال: وفي مكان أنا فيه شيء يشاركني في قتل النّاس! ثم وثب فإذا هو في الخليج. فلما [رآه] الناس سقطوا عن آخرهم، فخضخضوه وهو فراسخ في فراسخ، حتّى أخذوا كلّ تمساح فيه أخذ يد.
فيقال: إنّ أهل الزابج وأغبابها أكثر من شطر أهل الأرض.
قالوا: وآخر العمران كلّه سودان، وما استدار من أقاصي العمران أكثر من أهل الواسطة، كطوق الرّحى الذي يلي الهواء، الذي هو أوسع وأكثر ذرعا مما قصر عنه من فلك الرّحى ولنعتبر ذلك بالجناح المطيف، لا يرى أحد ذرعه مع قلّة عرضه، ونجده أكثر ذرعا من نفس الدار.
وليس خلف الزابج بيضان، وكذلك جميع بلاد السودان السّاكنة في الأطراف وفي آخر أطواق العمران.
قالوا: فهذا دليل على أنّا أكثر، وإذا كنّا أكثر كنا أفخر. وقد قال شاعركم:
ولست بالأكثر منه حصى ... وإنّما العزة للكاثر
قالوا: والقبط جنس من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن [الولد] فولد له منهم نبيّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام. وطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم الولد، وولد له إبراهيم، وكنّاه به جبريل.
قالوا: والحجر الأسود من الجنّة. والنّحاس إذا اشتدّ سواده كان أثمن وأجود. فمن استنكر لون السواد فما في فرنجة والرّوم والصّقالبة من إفراط سبوطة الشّعر والرّقّة والصّهوبة، والحمرة في شعر الرّأس واللحية، وبياض الحواجب والأشفار، أقبح وأسمج. وليس في السّودان مغرب، ليس المغرب إلّا فيكم. ولا سواء من لم تنضجه الأرحام وما جازت به حدّ التمام.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)