المنشورات
اثر البيئة في لون السودان والبيضان
قالوا: ولنا بعد معرفة بالتفلسف والنّظر، ونحن أثقف النّاس. ولنا في الأسرار حجة. ونحن نقول: إنّ الله تعالى لم يجعلنا سودا تشويها بخلقنا، ولكنّ البلد فعل ذلك بنا. والحجّة في ذلك أنّ في العرب قبائل سودا كبني سليم بن منصور. وكلّ من نزل الحرّة من غير بني سليم كلّهم سود. وإنّهم ليتخذون المماليك للرعي والسّقاء، والمهنة والخدمة، من الأشبانيّين ومن الرّوم نسائهم، فما يتوالدون ثلاثة أبطن حتّى تنقلهم الحرّة إلى ألوان بني سليم.
ولقد بلغ من أمر تلك الحرّة أنّ ظباءها ونعامها، وهوامّها وذبابها وثعالبها وشاءها وحميرها، وخيلها، وطيرها كلّها سود. والسّواد والبياض إنّما هما من قبل خلقة البلدة، وما طبع الله عليه الماء والتّربة، ومن قبل قرب الشّمس وبعدها، وشدّة حرّها. وليس ذلك من قبل مسخ ولا عقوبة، ولا تشويه ولا تقصير.
على أنّ بلاد بني سليم تجري مجرى بلاد التّرك. ومن رأى إبلهم ودوابّهم وكلّ شيء لهم تركيّ رآه شيئا واحدا. وكلّ شيء لهم تركيّ المنظر.
وربّما رأى الغزاة دون العواصم أخلاط غنم الرّوم فلا يخفى عليهم غنم الرّوم من غنم الشّام، للرّوميّة التي يرونها فيها.
وقد نرى الناس أبناء الأعراب والأعرابيات الذين وقعوا إلى خراسان فلا نشكّ أنّهم علوج القرى. وهذا موجود في كل شيء. وقد نرى جراد البقل والرّيحان وديدانهما خضرا، ونرى قمل رأس الشّابّ سودا، ونراها إذا ابيضّ رأسه بيضا، ونراها إذا خضبت حمرا.
فليس سوادنا، معشر الزّنج، إلّا كسواد بني سليم ومن عددنا عليكم من قبائل العرب في صدر هذا الكلام.
وما إفراط سواد من اسودّ من الناس إلّا كإفراط بياض من ابيضّ من الناس. وكذلك السّمرة المتولّدة من بينهما، وكذلك الزّيّ والهيئات، وكذلك الصّناعات، وكذلك المطاعم والشّهوات.
وقد ذكر الشاعر، حين مدح أسيلم بن الأحنف الأسديّ، سواد اليمانية فقال:
أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين تداحى أو لأذن تسمّع
من النّفر الشّمّ الذين إذا انتموا ... وهاب الرّجال حلقة الباب قعقعوا
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدّهان رأسه وهو أنزع
إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقّوا وأوسعوا
وقد عاب بعض البيضان عبد بني جعدة بلونه، فقال:
قد عاب لوني أقوام فقلت لهم ... ما عاب لوني إلّا مفرط الحمق
إن كان لوني فيه دعجة كلف ... حزن الإهاب فإنّي أبيض الخلق
أرضي الصّديق وأحمي الظّعن معترضا ... صدر القناة وأكنى كنه السّرق
وكانت امرأة عمرو بن شاس تجفو عرار بن عمرو، وكان ابن سوداء، فقال عمرو بن شاس في ذلك، وفي صفة أبناء الحبشيّات والزّنجيات:
ألم يأتها أنّي صحوت وأنّني ... تخشّعت حتّى ما أعارم من عرم
وأطرق إطراق الشّجاع، ولو يرى ... مساغا لنابيه الشّجاع لقد أزم
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم
وإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم
فإن كنت منّي أو تحبّين شيمتي ... فكوني له كالسّمن ربّت له الأدم
وإلّا فبيني مثل ما بان راكب ... تزوّد خمسا ليس في سيره أتم
وأمّا الهند فوجدناهم يقدّمون في النّجوم والحساب، ولهم الخطّ الهنديّ خاصّة، ويقدّمون في الطبّ، ولهم أسرار الطبّ وعلاج فاحش الأدواء خاصة. ولهم خرط التماثيل ونحت الصّور بالأصباغ تتّخذ في المحاريب وأشباه ذلك. ولهم الشّطرنج، وهي أشرف لعبة وأكثرها تدبيرا وفطنة. ولهم السّيوف القلعيّة، وهم ألعب النّاس بها وأحذقهم ضربا بها. ولهم الرّيى النّافذة في السّموم وفي الأوجاع. ولهم غناء معجب. ولهم الكنكلة، وهي وتر واحد يمدّ على قرعة فيقوم مقام أوتار العود والصّنج. ولهم ضروب الرّقص والخفّة، ولهم الثّقافة عند الثّقاف خاصة، ولهم معرفة المناصفة، ولهم السّحر والتّدخين والدمازكية. ولهم خطّ جامع لحروف اللّغات، وخطوط أيضا كثيرة، ولهم شعر كثير وخطب طوال، وطبّ في الفلسفة والأدب. وعنهم أخذ كتاب كليلة ودمنة. ولهم رأي ونجدة، وليس لأحد من أهل الصّبر ما لهم. ولهم من الزّيّ الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلّة والقرن والسّواك، والاحتباء، والفرق والخضاب. وفيهم جمال وملح واعتدال وطيب عرق.
وإلى نسائهم يضرب الأمثال. ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهنديّ الذي لا يعدله عود. ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا تكلّم به على السّمّ لم يضرّ. وأصل حساب النّجوم من عندهم أخذه النّاس خاصّة. وآدم عليه السلام إنّما هبط من الجنّة فصار ببلادهم.
قالوا: ومن مفاخر الزنج حسن الحلق، وجودة الصّوت. وإنّك لتجد ذلك في القيان إذا كنّ من بنات السّند.
وخصلة أخرى: أنّه لا يوجد في العبيد أطبخ من السّنديّ، هو أطبع على طيّب الطّبخ كلّه.
ومن مفاخرهم أنّ الصّيارفة لا يولّون أكيستهم وبيوت صروفهم إلّا السّند وأولاد السّند؛ لأنّهم وجدوهم أنفذ في أمور الصّرف، وأحفظ وآمن. ولا يكاد أحد أن يجد صاحب كيس صيرفيّ ومفاتيحه ابن روميّ ولا ابن خراسانيّ.
ولقد بلغ من تبرّك التجار بهم أنّ صيارفة البصرة وبنادرة البربهارات، لمّا رأوا ما كسب فرج أبو روح السّنديّ لمولاه من المال والأرضين اشترى كلّ امرىء منهم غلاما سنديّا، طمعا فيما كسب أبو روح لمولاه.
قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: «الأدغم سيّد أهل المشرق» يعني عبيد الله بن أبي بكرة. وكان أشدّ السّودان سوادا. وإيّاه يعني عبد الله ابن خازم حيث يقول:
حبشيّ حبشته حبشة
فهذا جملة ما حضرنا من مفاخر السّودان. وقد قلنا قبل هذا في مفاخر قحطان، وسنقول في فخر عدنان على قحطان في كثير مما قالوا إن شاء الله.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)