المنشورات
واجبات الحاجب
وقال آخر لحاجبه: إنّك عيني التي أنظر بها، وجنّة أستنيم إليها، وقد ولّيتك بابي فما تراك صانعا برعيتي؟
قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتّبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك.
قال: قد وفيت بما عليك ولك قولا، إن وفيت به فعلا. والله وليّ كفايتك ومعونتك.
وعهد أمير إلى حاجبه فقال: إنّ أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال، وذلك أنّ الأموال وقاية للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنّما أعراضهم أقدارهم، فصنها لهم، ووفّرها عليهم. وصن بذلك عرضي، فلعمري إنّ صيانتك أعراضهم صيانة لعرضي، ووقايتك أقدارهم وقاية لقدري؛ إذ كنت الحظيّ بزين إنصافهم إن أنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظلموا في غشيانهم بابي، وحضورهم فنائي.
أوف كلّ أمرىء قدره، ولا تجاوز به حدّه، وتوقّ الجور في ذلك التوقّي كلّه. أقبل على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العذر، وطلاقة الوجه ولين القول، وإظهار الودّ، حتّى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له، كرضا من تأذن له عنك لما يمنحه من التكريم، ويحويه من التعظيم؛ فإنّ المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنّيل عند العظماء في نفع المنالة.
أنّه إليّ حالات كلّ من يغشى بابي من وجيه وخامل، وذي هيئة وأخي رثاثة، فيما يحضرون له بابي، ويتعلّقون به من إتياني.
لا تحتقرنّ من تقتحمه العيون لرثاثة ثوب أو لدمامة وجه، احتقارا يخفى عليّ أثره، فربّما بذّ مثله بمخبره من يروق العيون منظره.
إنّك إن نقصت الكريم ما يستحقّه من مال لم يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشدّ الإسخاط، إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره، ولا يريد قدره ليبقي به دنياه. فكن لتحيّف عرضه أشدّ توقّيّا منك لتحيّف ماله.
إن المحجوب وإن كان عدلنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه، يتداخله انكسار إذا حجب ورأى غيره قد أذن له. فاختصّه لذلك من بشاشتك به، وطلاقتك له، بما يتحلّل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أنّ صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن نأذن له، ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له.
إن اجتمع الأعلون والأوسطون والأدنون، فدعوت بواحد منهم دون من يعلوه في القدر، لأمر لا بدّ من الدعاء به له، فأظهر العذر في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه؛ فإنّ الناس يتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظّنون.
والواجب على من ساسهم التوقّي على نفسه سوء ظنونهم، وعليهم تقويم نفوسهم؛ إذ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس.
المدائني قال: قال زياد ابن أبيه لحاجبه:
يا عجلان: قد ولّيتك بابي، وعزلتك عن أربعة: طارق ليل؛ فشرّ ما جاء به أو خير. ورسول صاحب الثغر؛ فإنّه إن تأخّر ساعة بطل به؟؟؟
عمل سنة. وهذا المنادي بالصلاة. وصاحب الطّعام؛ فإنّ الطعام إذا ترك برد، وإذا أعيد عليه التسخين فسد.
الهيثم بن عديّ قال: قال خالد بن عبد الله القسريّ لحاجبه: لا تحجبنّ عنّي أحدا إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلّا عن ثلاث: إمّا رجل عييّ يكره أن يطّلع على عيّه، وإمّا رجل مشتمل على سوءة، أو رجل بخيل يكره أن يدخل عليه إنسان يسأله شيئا.
أنشدني محمود الورّاق لنفسه في هذا المعنى:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردّ ذوي الحاجات دون حجابه
وأنشدني بعض المحدثين في ابن المدبّر:
لولا مقارفة الرّيب ... ما كنت ممّن يحتجب
أولا فعيّ منك أو ... بخل على أهل الطّلب
فاكشف لنا وجه الحجا ... ب ولا تبال من عتب
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)