المنشورات
المعتزلة يكرهون الكتاب
وسئل ثمامة بن أشرس يوما، وقد خرج من عند عمرو بن مسعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهمه؟
فقال: ما رأيت قوما نفرت طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز- فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحص والنظر قائد غيّهم، والحكمة معدن شبههم-[أكثر] من الكتّاب.
وذكر أبو بكر الأصمّ ابن المقفّع فقال: ما رأيت شيئا إلّا وقليله أخفّ من كثيره إلّا العلم، فإنّه كلّما كثر خفّ محمله. ولقد رأيت عبد الله ابن المقفّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
. قد أوهنه علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته، وحيّرته بصيرته.
وكنّا في مجلس بشر بن المعتمر يوما وعنده المردار، وثمامة، والعلّاف، في جماعة من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوامّ واستحواذ الفتنة عليهم في التقليد، واستغلاق قلوبهم بكثير مما ليس في طبعهم، فتعظّمهم وتقضى لكلّ من نبل منهم بالصّواب في قوله وإن لم يعلموا. لا يدينون بالحقيقة، ولا يحمدون إلا ظاهر الحلية.
ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمن لا يعرفونه، حتّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير معاشرة جرت بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلّا أنّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلان الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحد تجهيله مع نبله. فإن وقفوا على تمييزه هابوه، وإن دعوا إلى تفهّمه أكبروه، وقالوا: لم ينصب هذا بموضعه إلّا لخاصّة فيه وإن جهلناها، وفضيلة موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلّه عمر بن فرج في السّفه والمباهتة، وإبراهيم ابن العبّاس في الشّره والرّقاعة، ونجاح بن سلمة في (الطّيش) والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللّؤم والجهالة، وآل وهب في النّهم والنّذالة، ويحيى بن خاقان في الذّلّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبّر في الخبّ والمكابرة، والفضل بن مروان في الفدامة مقصورة.
وفي عمر بن فرج يقول الشاعر:
لا تطلب الخير من بني فرج ... لا بارك الله في بني فرج
والعن إذا ما لقيته عمرا ... لعبا يقينا بأعظم الهرج
فلعنة إن لعنتها عمرا ... تعدل مقبولة من الحجج
ليس على المفتري على عمر ... من ضرب حدّ يخشى ولا حرج
وخبّرت أنّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوما ليسلّم عليه، فلم يأذن له حاجبه فانصرف، وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذن له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رقعة فيها:
أراك تراع حين ترى خيالي ... فما هذا يروعك من خيالي
لعلك خائف منّي سؤالا ... ألا فلك الأمان من السّؤال
كفيتك إنّ حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلا بحالي
وإنّ العسر مثل اليسر عندي ... بأيّهما منيت فما أبالي
فلما قرأ يحيى بن خاقان رقعته ووثق بأمانه من السّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يعد إليه، ولا التقيا بعد ذلك.
وجلس الجاحظ يوما في بعض الدوواين، فتأمّل الكتّاب فقال: خلق حلوة، وشمائل معشوقة، وتطرّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزّبد يذهب جفاء، وكنبتة الرّبيع يحرقها الهيف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقة، ولا يدينون بحقيقة؛ أخفر الخلق لأماناتهم؛ وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)