المنشورات
كتمان السر وحفظ اللسان
[1- موضوع الكتاب]
أمّا بعد فإنّي قد تصفّحت أخلاقك، وتدبّرت أعراقك، وتأمّلت شيمك، ووزنتك فعرفت مقدارك، وقوّمتك فعلمت قيمتك، فوجدتك قد ناهزت الكمال، وأوفيت على التّمام، وتوقّلت في درج الفضائل، وكدت تكون منقطع القرين، وقاربت أن تلفى عديم النّظير، لا يطمع فضل أن يفوتك، ولا يأنف شريف أن يقصر دونك، ولا يخشع عالم أن يأخذ عنك.
ووجدتك في خلال ذلك على سبيل تضييع وإهمال لأمرين: هما القطب الذي عليه مقار الفضائل، فكنت أحقّ بالعدل، وأقمن بالتأنيب ممن لم يسبق شأوك، ولم يتسنّم رتبتك، لأنه ليس ملوما على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزّلّة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف، لأنّ المنكر إذا كثر صار معروفا، وإذا صار المنكر معروفا صار المعروف منكرا.
وكيف يعجب ممن أمره كلّه عجب، وإنّما الإنكار والتعجّب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السّنّة والسجيّة، كما قال الأول: «تذكر» .
وقيل: «الكامل من عدّت سقطاته» ، وقيل: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه خيرا من غده فهو مفتون، ومن كان غده خيرا من يومه فذلك السعيد المغبوط» . وفي هذا المعنى قال الشاعر:
رأيتك أمس خير بنى معدّ ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف خيرا ... كذلك تزيد سادة عبد شمس
وقال آخر في معن:
أنت امرؤ همّك المعالي ... ودلو معروفك الربيع
أنت امرؤ من وائل صميم ... كالقلب تحنى له الضلوع
في كلّ عام تزيد خيرا ... يشيعه عنك من يشيع
والامران اللذان نقمتهما عليك: وضع القول في غير موضعه، وإضاعة السّرّ بإذاعته.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
29 مايو 2024
تعليقات (0)