المنشورات

العقل واللسان

وليس الخطر فيما أسومك وأحاول حملك عليه بسهل ولا يسير. وكيف وأنا لا أعرف في دهري- على كثير عدد أهله- رجلا واحدا ممن ينتحل الخاصّة، وينسب إلى العلية، ويطلب الرياسة ويخطب السّيادة، ويتحلّى بالأدب ويديم الثّخانة والزّماتة، والحلم والفخامة، أرضى ضبطه للسانه، وأحمد حياطته لسرّه. وذلك أنّه لا شيء أصعب من مكابدة الطبائع، ومغالبة الأهواء، فإن الدّولة لم تزل للهوى على الرأي طول الدهر. والهوى هو الدّاعية الى إذاعة السر، وإطلاق اللسان بفضل القول.
وإنّما سمّى العقل عقلا وحجرا، قال تعالى- هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ
- لأنّه يزمّ اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه، ويقيّد الفضل ويعقله عن أن يمضى فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرّة، كما يعقل البعير، ويحجر على اليتيم.
وإنّما اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة مستحفظة للخواطر والأسرار، وكلّ ما يعيه [من] ذلك عن الحواسّ من خير وشرّ، وما تولّده الشّهوات والأهواء، وتنتجه الحكمة والعلم.
ومن شأن الصدر- على أنه ليس وعاء للأجرام، وإنّما يعى بقدرة [من] الله لا يعرف العباد كيف هي- أن يضيق بما فيه، ويستثقل ما حمل منه، فيستريح الى نبذه، ويلذّ إلقاءه على اللسن. ثم لا يكاد أن يشفيه أن يخاطب به نفسه في خلواته حتى يفضي به الى غيره ممن لا يرعاه ولا يحوطه. كلّ ذلك ما دام الهوى مستوليا على اللّسان، واستعمل فضول النّظر فدعت الى فضول القول.
فإذا قهر الرأي الهوى فاستولى على اللسان، منعه من تلك العادة، وردّه عن تلك الدّربة، وجشّمه مؤونة الصّبر على ستر الحلم والحكمة.
ولا شيء أعجب من أنّ المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأن صاحبها مسؤول عنها، ومحاسب على ما خوّل منها، أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجّته، ووضعها مواضع النّفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظة لفظة، وصرفها عن أضدادها.
فلم يرض الإنسان أن عطّلها عمّا خلقت له مما ينفعه حتّى استعملها في ضدّ ذلك مما يضرّه، فاجتمع عليه الإثمان اللذان اجتمعا على صاحب المال الذي كنزه ومنعه من حقّه، فوجب عليه إثم المنع وإن كان لم يصرفه في معصية، ثم صرفه في أبواب الباطل والفسق فوجب عليه إثم الإنفاق فيها. وهذه غاية الغبن والخسران. نعوذ بالله منهما.
فاللسان أداة مستعملة، لا حمد له ولا ذمّ عليه، وإنما الحمد للحلم واللّوم على الجهل. فالحلم هو الاسم الجامع لكلّ فضل، وهو سلطان العقل القامع للهوى. فليس قمع الغضب وتسكين قوة الشّرّة، وإسقاط طائر الخرق بأحقّ بهذا الاسم، ولا أولى بهذا الرسم، من قمع فرط الرضا وغلبة الشهوات، والمنع من سوء الفرح والبطر، ومن سوء الجزع والهلع، وسرعة الحمد والذم، وسوء الطّبع والجشع، وسوء مناهزة الفرصة، وفرط الحرص على الطّلبة، وشدّة الحنين والرقّة، وكثرة الشكوى والأسف، وقرب وقت الرضا من وقت السّخط، ووقت التسخط من وقت الرضا، ومن اتّفاق حركات اللسان والبدن على غير وزن معلوم ولا تقدير موصوف، وفي غير نفع ولا جدوى.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید