المنشورات

عودة الى الغيبة

قالوا: وليس من أحد أذلّ من مغتاب، لأنّه يخفى شخصه، ويطامن حسّه، ويغّض من صوته، ولا يزيد بما يناله من ذلك إلّا بأن يرفع من قدر خصمه ويعظّم من شأنه.
قال معاوية: أتدري من النبيل؟ هو الذي إذا رأيته هبته، وإذا غاب عنك اغتبته.
وهي لعمري سبيل العظماء عند العوامّ، والملوك عند الرعيّة، والسّادة عند العبيد.
فلم يأخذ المغتاب ممن اغتابه شيئا بعضيهته إيّاه إلّا والذي أعطى من الهيبة عند حضوره أكثر منه.
ولو كان المغتاب لا يستتر من الغيبة إلا ممّن يخاف سطوته، كان أعذر. ولكن اللّؤم المتمكّن منه يحمله على اغتياب عبده وأمته، فضلا عن كفئه ونظيره.
ويغتاب الرجل عند عدوّه والمشاحن له، مساعدة له بالسّخف، وتقرّبا إليه بالمهانة والضّعف، من غير أن يكون له عليه طول، أو يلتمس منه على ما تقرّب به إليه جزاء أو شكورا.
ثم لعلّه ينكفىء الى الذي اغتابه وقصبه من ساعته ويومه، فيعطيه في عدوّه الذي اغتابه عنده أيضا مثل ذلك وأكثر منه، لا لعلّه أيضا ولا مرفق ولا ربح أكثر من الذّلّة التي يجدها في نفسه، والضّعف في منّته، كما يعظّم الغنيّ بغير ثمن، ويحتقر الفقير بغير سبب، فمتى كوشف أو عوتب لبسته ذلة أخرى من الكظّة بالمعاذر الكاذبة، والاعتصام بالأيمان الفاجرة. ومن كانت هذه دربته فهو حريّ أن يطّلع على دخلة أمره، فلا يقبل منه عذر، ولا يصدّق في قول ولا حلف، وقد تسربل الذّلّة، وتدرّع الخضوع.
وليس من سوس النفس الكريمة الشّهمة، أن تلقى الناس بخلاف ما يتخلّقون به ما لم تأت ضرورة يحتاج فيها الى كيد وغيلة، او مكر وحيلة، ويثار بالغيبة فيها الرأي الأصيل من مكانه، فيفعل ذلك العاقل فيما يحلّ له ويحسن به، بعد أن تعييه الحيلة في استصلاح ذلك العدوّ بالرفق والملاينة.
وإنما قيل: «قلّ من اعتذر إلّا كذب» ، لكثرة النّطف في الناس وضعف أنفسهم على الإقرار بالذّنب، فلا ذلّة الضّعف الثاني في الاعتذار نهت عن كلفة الضّعف الأوّل في الاغتياب، ولا كلفة الضّعف الأوّل صانت عن ذلّة الضّعف الثاني.
وعلى أنّ أكثر من يعتذر إليه بقابل للعذر على حقيقة وإن أظهر القبول، لما جرّب من سخاء النّاس بالأيمان، وبعدهما من الإقرار بالذنب ما لم تأت حجة واضحة، ودليل شاهد عدل.
وإذا كانت هذه سبيل المعتذر إليه فيحقّ على المعتذر- إن كانت في نفسه قيمة- أن لا يعتذر إلّا من يحبّ أن يجد له عذرا، ولا يعجل الى المين وهو لا يجد للحجّة مكانا.
وأكثر من يعتذر اليه إنما يفعل ذلك به خوفا من سقطته، وإبقاء لسلطانه.
والمتفقّهون يتأوّلون في الأيمان السّلطانية ما يلحق بها عند السّلطان الهّمة، ويلزمهم الظّنّة، سيّما في الأمور التي في الإقرار بها إباحة الدّم والمال، وهتك السّتر.
ولا حسم لهذا الداء إلّا باطّراح الفضول، وسلامة اللسان من أن يلغ في الأعراض، ويستسرّ بالعضيهة والبهت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» . ومن لم يسلم الناس منه فليس سالما من نفسه.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید