المنشورات

حفظ اللسان

وقال القائل: احرس أخاك إلّا من نفسه.
وقالوا: مقتل المرء بين فكيّه.
وكتب على بعض أبواب المدن بالسّند: احفظ رأسك.
وقال الاوّل: قد تصل النّصال إلى الإخوان فتستخرج، وأمثال النّصال من القول إذا وصلت الى القلب لم تستخرج أبدا.
وقال بهرام، وسمع في اللّيل صوت طائر فتحدّاه بسهم وهو لا يراه، إلّا أنّه تتّبع الصّوت فصرعه، فلما صار بين يديه قال: والطّير أيضا لو سكت كان خيرا له! وقيل: ما شيء أحقّ بطول سجن من لسان.
وقيل: يسأل اللسان الأعضاء في كلّ يوم فيقول: كيف أنتنّ؟ فيقلن:
بخير إن تركتنا!
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم» .
وقال عيسى عليه السلام: «أعمال البّر ثلاثة: المنطق، والنظر، والصّمت. فمن كان منطقه في غير ذكر الله فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها» .
فانظر بأيّ الأمرين قطعت عمرك؟ أبا لحكمة أم باللّغو؟ وانظر كيف وصف الله تعالى من أثنى عليه بخير من عباده فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
، وقال: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
، وقال: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
. وصان عنه أسماع أهل الجنّة وألسنتهم فقال:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصّمت» .
وقال علي بن أبي طالب: «أفضل العبادة الصبر وانتظار الفرج» .
وقال بعض الحكماء: لو لم يكن للصّامت في صمته إلّا الكفاية لأن يتكلّم بكلام ويحكى عنه محرّفا فيضطرّ الى ان يقول: ليس هكذا قلت، إنّما قلت كذا وكذا. فيكون إنكاره إقرارا، واعترافه بما حكى عنه شاهدا لمن وشى به، وادّعاء لتحريف غير مقبول منه إلّا أن يأتي ببيّنة له- لكان ذلك من أكثر فضائل الصّمت.
وربّما ذكر رجل الله تبارك وتعالى، فكان ذلك الذّكر إثما له، لأنه قد يدخله في باب تفخيم الذنب الحقير والإغراء والتّحريض، فيسفك الدم الحرام، أو يعظّم الجرح الصغير. بل ربّما ضحك وتبسّم، فأغرى وحرّض، وأثم وأوبق. قال بعض الشعراء:
فإن شئت أدلى فيكما غير واحد ... مجاهرة أو قال عندي في سرّ
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجّ ويستشري
وقالت العرب: «من كفي شرّ لقلقه وذبذبه وقبقبه فقد كفي الشرّ» .
وهذا باب لولا أن نشغل القارىء لهذا الكتاب بغير ما قصدنا إليه وعزمنا عليه لأتينا عليه. وهو كثير موجود لمن طلبه، وجملة واحدة فيها كفاية، فإنّما تختلف الألفاظ التي تجعل كسوة لتلك المعاني. وإلّا فإنّك إذا نظرت الى جميع شرور الدّنيا وجدت أوّلها كلمة عارت فجنت حربا عوانا، كحرب بكر وتغلب ابنى وائل، وعبس وذبيان ابنى بغيض، والأوس والخزرج ابنى قيلة، والفجار الأول والثاني، وعامّة حروب العرب والعجم.
وإذا تأمّلت أخبار الماضين لم تحص عدد من قتله لسانه وكان هلاكه في كلمة بدرت منه.
وليس العجب ممن أفضى بسرّه الى من ليس له بموضع، ممّن تقدّمت معرفته وزالت الشّكوك عنه في أمره، ولكنّ العجب عين العجب ممن استنام بسرّه الى من لم تقدم معرفته ومن أنس إليه عن اللّقاءة واللّقاءتين، دون معرفة العين والاسم، والسّبب والنّسب، فانخدع في أوّل وهلة وغبن عقله قبل أن يغبن دينه وماله، وتضاعفت عليه البليّة بطول الحسرة، فإنّ البلاء عارض ومكتسب، فكان العارض السّماويّ وما خوّلته الأقدار سرّا بعد اجتهاد صاحبه رأيه، وحيلته فى طلب الخير. وصواب تدبيره فيه أسهل وأيسر على العاقل المعتاد للصواب، وإن كان كل مكروه مرّا بشعا. وإنّما الكرب اللازم والداء العياء ما اجتمع على صاحبه مع الفجيعة والحاجة، والنّقص والذّلّة، غمّ النّدامة والأسف على ما فرط منه، إذ كان الجاني على نفسه بيده.
ولهذا الكلام نظر نكره التطويل به، والمعنى واحد، وإنّما نحتاج من هذا ومثله- ممّا قدّمت ذكره في الكتاب- إلى حفظ السرّ ووزن القول. وإلى هذا أجرينا، وله قصدنا.
ولو اقتصرنا في هذا الكتاب على حرف مما فيه، لكان بإذن الله كافيا لمن له لبّ وعقل، لكنّ الاحتجاج أوكد، والإيضاح أبلغ، والحظّ في هذا القول كلّه لمن عقله والآخذ به، أوفر [منه] لمن قاله ولم يعمل بقوله، لأنه إنما يجتنى ثمرة الصواب، ويختلف برفقه من صدّق قوله بفعله، فإنّ الحكمة قول وعمل، وإنّما حظّ القائل ما لم يستعمل علمه وقوله حظّ الواصفين، وحسن الصّفة يزول بزوالها، وينقطع بانقطاعها، ومدّتها- الى ان يملها القائل والسامع- يسيرة.
والأفعال المحمودة متّصلة النفع والشّرف والفضيلة في الحياة وبعد الوفاة، ومذخور للاعقاب، وحديث جميل، ونشر باق على مرّ الجديدين.
وأكثر من ذلك كلّه توفيق الله وتسديده، فإنّ القلوب في يده، والخيرات مقسومات من عنده. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم كتاب كتمان السر من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، بعون الله وتأييده، ومشيئته وتوفيقه. والله الموفّق للصّواب برحمته.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید