المنشورات

لا خير يرتجى من الحسود

فصل منه: ومتى رأيت حاسدا يصوّب لك رأيا إن كنت مصيبا، أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئا، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك أو قصّر من غيبته لك؟
فهو الكلب الكلب، والنّمر النّمر والسّمّ القشب، والفحل القطم، والسّيل العرم. إن ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى، حياتك موته، وموتك عرسه وسروره. يصدّق عليك كلّ شاهد زور، ويكذّب فيك كلّ عدل مرضيّ. لا يحبّ من النّاس إلّا من يبغضك، ولا يبغض إلّا من يحبّك.
عدوّك بطانة وصديقك علانية.
وقلت: إنّك ربّما غلطت في أمره لما يظهر لك من برّه. ولو كنت تعرف الجليل من الرأي، والدقيق من المعنى، وكنت في مذاهبك فطنا نقابا، ولم تك في عيب من ظهر لك عيبه مرتابا، لا ستغنيت بالرّمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسّرّ عن الجهر، وبالخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل، وأرحتنا من طلب التحصيل ولكني أخاف عليك أنّ قلبك لصديقك غير مستقيم، وأن ضمير قلبك له غير سليم، وإن رفعت القذى عن لحيته، وسوّيت عليه ثوبه فوق مركبه، وقبّلت صبيّه بحضرته، ولبست له ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزّلّة، واستحسنت كلّ ما يقبح من جهته، وصدّقته على كذبه، وأعنته على فجزته.
فما هذا العناء! كأنّك لم تقرأ المعوّذة، ولم تسمع مخاطبته نبيّه صلى الله عليه وسلم، في التّقدمة إليه بالاستعاذة من شرّ حاسد إذا حسد. 
أتطلب ويحك أثرا بعد عين، أو عطرا بعد عروس، أو تريد أن تجتني عنبا من شوك، أو تلتمس حلب لبن من حائل. إنّك إذا أعيا من باقل، وأحمق من الضبع، وأغفل من هرم.
إن كنت تجهل بعد ما أعلمناك، وتعوجّ بعدما قوّمناك، وتبلّد بعدما ثقّفناك، وتضلّ إذ هديناك، وتنسى إذ ذكّرناك، فأنت كمن أضلّه الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. فنعوذ بالله من الخذلان.
إنّه لا يأتيك ولكن يناديك ولا يحاكيك ولكن يوازيك. أحسن ما تكون عنده حالا [أقلّ ما تكون مالا، وأكثر ما تكون عيالا، [وأعظم] ما تكون ضلالا. وأفرح ما يكون بك أقرب ما تكون بالمصيبة عهدا، وأبعد ما تكون من الناس حمدا.
فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزّمنى، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القردان، أهون من معاشرته، والاتّصال بحبله.
والغلّ نتيج الحسد، وهو رضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، كما أنّه ليس فرع إلّا له أصل، ولا مولود إلّا له مولد، ولا نبات إلّا من أرض، ولا رضيع إلّا من مرضع، وإن تغيّر اسمه، فإنّه صفة من صفاته، ونبت من نباته، ونعت من نعوته.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید