المنشورات
النبل والتنبل وذم الكبر
[1- مقدمة يحرض فيها مخاطبه على اناس تكبروا عليه]
فصل منه: قد قرأت كتابك وفهمته، وتتبّعت كلّ ما فيه واستقصيته، فوجدت الذي ترجع إليه بعد التّطويل، وتقف عنده بعد التّحصيل، قد سلف القول منّا في عيبه، وشاع الخبر عنّا في ذمّه، وفي النّصب لأهله، والمباينة لأصحابه، وفي العجّب منهم، وإظهار النّفي عنهم.
والجملة أنّ فرط العجب إذا قارن كثرة الجهل، والتّعرّض للعيب إذا وافق قلّة الاكتراث، بطلت المزاجر، وماتت الخواطر. ومتى تفاقم الداء وتفاوت العلاج، صار الوعيد لغوا مطّرحا، والعقاب حكما مستعملا.
وقد أصبح شيخك، وليس يملك من عقابهم إلّا التوقيف، ولا من تأديبهم إلّا التعريف.
ولو ملكناهم ملك السّلطان، وقهرناهم قهر الولاة، لنهكناهم عقوبة بالضّرب، ولقمعناهم بالحصر.
والكبر- أعزّك الله تعالى- باب لا يعدّ احتماله حلما، ولا الصّبر على أهله حزما، ولا ترك عقابهم عفوا، ولا الفضل عليهم مجدا، ولا التّغافل عنهم كرما، ولا الإمساك عن ذمّهم صمتا.
واعلم أنّ حمل الغنى أشدّ من حمل الفقر، واحتمال الفقر أهون من احتمال الذّل على أنّ الرضا بالفقر قناعة وعزّ، واحتمال الذّلّ نذالة وسخف.
ولئن كانوا قد أفرطوا في لوم العشيرة، والتكبّر على ذوي الحرمة، لقد أفرطت في سوء الاختيار، وفي طول مقامك على العار.
وأنت مع شدّة عجبك بنفسك، ورضاك عن عقلك، خالطّت من موته يضحك السّنّ، وحياته تورث الحزن، وتشاغلك به من أعظم الغبن.
وشكوت تنبّلهم عليك، واستصغارهم لك، وأنّك أكثر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول. ولو كنت كما تقول لما أقمت على الذّلّ ولما تجرّعت الصّبر وأنت بمندوحة منهم، وبنجوة عنهم. ولعارضتهم من الكبر بما يهضّهم، ومن الامتعاض بما يبهرهم.
وقلت: ولو كانوا من أهل النّبل عند الموازنة، أو كان معهم ما يغلط النّاس فيه عند المقايسة لعذرتهم واحتججت عنهم، ولسترت عيبهم، ولرقعت وهيهم. ولكنّ أمرهم مكشوف، وظاهرهم معروف.
وإن كان أمرهم كما قلت، وشأنهم كما وصفت، فذاك ألوم لك، وأثبت للحجّة عليك.
وسأؤخّر عذلك إلى الفراغ منهم، وتوقيفك بعد التّنويه بهم.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)
الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية، 1423 هـ
29 مايو 2024
تعليقات (0)