المنشورات
عواقب الكبر
ولم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهّمت العقول عملا اجتباه ذو عقل، أو اختاره ذو علم، بأوبأ مغبّة، ولا أنكد عاقبة، ولا أوخم مرعى، ولا أبعد مهوى، ولا أضرّ على دين، ولا أفسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله، ولا أدعى إلى مقت النّاس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفورا عن التّوبة، ولا أقلّ دركا عند الحقيقة، ولا أنقض للطّبيعة، ولا أمنع من العلم، ولا أشدّ خلافا على الحلم، من التكبّر في غير موضعه، والتنبّل في غير كنهه.
وما ظنّك بشيء العجب شقيقه، والبذخ صديقه، والنّفج أليفه، والصّلف عقيده.
والبّذّاخ متزيد، والنّفّاج كذّاب، والمتكبّر ظالم، والمعجب صغير النّفس. وإذا اجتمعت هذه الخصال، وانتظمت هذه الخصال في قلب طال خرابه، واستغلق بابه.
وشرّ العيوب ما كان مضمّنا بعيوب، وشرّ الذنوب ما كان علّة لذنوب.
والكبر أوّل ذنب كان في السماوات والأرض، وأعظم جرم كان من الجنّ والإنس، وأشهر تعصّب كان في الثّقلين، وعنه لجّ إبليس في الطّغيان، وعتا على ربّ العالمين، وخطّأ ربّه في التّدبير، وتلقّى قوله بالرّد. ومن أجله استوجب السّخطة، وأخرج من الجنّة، وقيل له: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها.
ولإفراطه في التّعظيم خرج إلى غاية القسوة، ولشدّة قسوته اعتزم على الإصرار، وتتايع في غاية الإفساد، ودعا إلى كلّ قبيح، وزيّن كل شرّ، وعن معصيته أخرج آدم من الجنّة، وشهر في كلّ أفق وأمّة، ومن أجله نصب العداوة لذرّيته، وتفرّغ من كل شيء إلّا من إهلاك نسله، فعادى من لا يرجوه ولا يخافه، ولا يضاهيه في نسب، ولا يشاكله في صناعة، وعن ذلك قتل النّاس بعضهم بعضا، وظلم القويّ الضّعيف، ومن أجله أهلك الله الأمم بالمسخ والرّجف، وبالخسف وبالطّوفان، والرّيح العقيم، وأدخلهم النّار، وأقنطهم من الخروج.
والكبر هو الذي زيّن لإبليس ترك السّجود، ووهّمه شرف الأنفة، وصوّر له عزّ الانتقاض، وحبّب إليه المخالفة، وآنسه بالوحدة والوحشة، وهوّن عليه سخط الرّبّ، وسهّل عليه عقاب الأبد، ووعده الظّفر، ومنّاه السّلامة، ولقّنه الاحتجاج بالباطل، وزيّن له قول الزّور، وزهّده في جوار الملائكة، وجمع له خلال السّوء، ونظم له خلال الشّرّ، لأنّه حسد والحسد ظلم، وكذب والكذب ذلّ، وخدع والخديعة لؤم. وحلف على الزور، وذلك فجور. وخطّأ ربّه، وتخطئة الله جهل، وأخطأ في جليّ القياس وذلك غيّ، ولجّ واللّجاج ضعف. وفرق بين التكبّر والتبدّي. وجمع بين الرّغبة عن صنيع الملائكة وبين الدّخول في أعمال السّفلة.
واحتجّ بأنّ النار خير من الطّين. ومنافع العالم نتائج أربعة أركان: نار يابسة حارة، وماء بارد سيّال، وأرض باردة يابسة، وهواء حارّ رطب. ليس منها شيء مع مزاوجته لخلافه إلّا وهو محي مبق. على أنّ النار نقمة الله من بين جميع الأصناف، وهي أسرعهنّ إتلافا لما صار فيها. وأمحقهنّ لما دنا منها.
هذا كلّه ثمرة الكبر، ونتاج النّية، والتكبّر شرّ من القسوة، كما أنّ القسوة شرّ المعاصي. والتّواضع خير الرحمة، كما أنّ الرّحمة خير الطّاعات.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
29 مايو 2024
تعليقات (0)