المنشورات

الكبر ليس من سياسة الملوك

وليس الذي كان فيه آل ساسان وأنوشروان وجميع ولد أزدشير بن بابك كان من الكبر في شيء. تلك سياسة للعوامّ، وتفخيم لأمر السّلطان، وتسديد للملك.
ولم يكن في الخلفاء أشدّ نخوة من الوليد بن عبد الملك، وكان أجهلهم وألحنهم. وما كان في ولاة العراق أعظم كبرا من يوسف ابن عمر، وما كان أشجعهم ولا أبصرهم، ولا أتمّهم قواما، ولا أحسنهم كلاما.
ولم يدّع الرّبوبيّة ملك قطّ إلّا فرعون، ولم يك مقدّما في مركّبه، ولا في شرف حسبه، ولا في نبل منظره، وكمال خلقه، ولا في سعة سلطانه وشرف رعيّته وكرم ناحيته. ولا كان فوق الملوك الأعاظم والجلّة الأكابر، بل دون كثير منهم في الحسب وشرف الملك وكرم الرعيّة، ومنعة السّلطان، والسّطوة على الملوك.
ولو كان الكبر فضيلة وفي التّيه مروءة، لما رغب عنه بنو هاشم ولكان عبد المطّلب أولى النّاس منه بالغاية، وأحقّهم بأقصى النهاية.
ولو كان محمود العاجل ومرجوّ الآجل، وكان من أسباب السّيادة أو من حقوق الرّياسة، لبادر إليه سيّد بني تميم، وهو الأحنف بن قيس، ولشحّ عليه سيّد بكر بن وائل وهو ملك، ولاستولى عليه سيّد الأزد وهو المهلّب.
ولقد ذكر أبو عمرو بن العلاء جميع عيوب السّادة، وما كان فيهم من الخلال المذمومة، حيث قال: «ما رأينا شيئا يمنع من السّودد إلّا وقد وجدناه في سيّد: وجدنا البخل يمنع من السّودد، وكان أبو سفيان بن حرب بخيلا.
والعهار يمنع من السّودد، وكان عامر بن الطفيل سيّدا، وكان عاهرا. والظّلم يمنع من السّودد، وكان حذيفة بن بدر ظلوما، وكان سيد غطفان. والحمق يمنع من السّودد، وكان عتيبة بن حصن محمقا، وكان سيّدا. والإملاق يمنع من السّودد، وكان عتبة بن ربيعة مملقا. وقلّة العدد تمنع من السّودد وكان شبل بن معبد سيّدا، ولم يكن من عشيرته بالبصرة رجلان. والحداثة تمنع من السّودد، وساد أبو جهل وما طرّ شاربه، ودخل النّدوة وما استوت لحيته.
فذكر الظّلم، والحمق، والبخل، والفقر، والعهار، وذكر العيوب ولم يذكر الكبر، لأنّ هذه الأخلاق وإن كانت داء فإنّ في فضول أحلامهم وفي سائر أمورهم ما يداوى به ذلك الدّاء، ويعالج به ذلك السّقم، وليس الداء الممكن كالدّاء المعضل، وليس الباب المغلق كالمستبهم، والأخلاق التي لا يمكن معها السّؤدد، مثل الكبر والكذب والسّخف، ومثل الجهل بالسّياسة.
وخرجت خارجة بخراسان فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجّهت إليهم وكيع إبن أبي سود لكفاهم فقال: وكيع رجل عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة، وفي رأسه نعرة، وإنّما أنفه في أسلوب؛ ومن عظم كبره اشتدّ عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفيّا، ولم يؤامر نصيحا، ومن تبجّح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الظّفر بعيدا، ومن الخذلان قريبا، والخطاء مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة. وإن كانت الجماعة لا تخطىء والفرقة لا تصيب.
ومن تكبّر على عدوّه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره. ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل قوّته قلّ احتراسه، ومن قلّ احتراسه كثر عثاره.
وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب إلّا كان منكوبا ومهزوما ومخدوعا.
ولا يشعر حتّى يكون عدوّه عنده، وخصمه فيما يغلب عليه أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق، وأشدّ إقداما من الأسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة، وأشحّ من صبيّ، وأجمع من ذرّة، وأحرص من كلب، وأصبر من ضبّ. فإنّ النّفس إنّما تسمح بالعناية على قدر الحاجة، وتتحفّظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطّمع، وتطمع على قدر السّبب.
فصل منه: وأقول بعد هذا كلّه: إنّ النّاس قد ظلموا أهل الحلم والعزم، حين زعموا أنّ الذي يسهّل عليهم الاحتمال معرفة الناس بقدرتهم على الانتقام، فكيف والمذكور بالحلم والمشهور بالاحتمال يقيّض له من السّفهاء، ويؤتى له من أهل البذاء ما لا يقوم له صبر، ولا ينهض به عزم.
بل على قدر حلمه يتعرّض له، وعلى قدر عزمه يمتحن صبره ولأنّ الذي سهّل عليه الحلم، ومكّنه من العزم، معرفة الناس بقدرته على الانتقام، واقتداره على شفاء الغيظ؛ فإنّ منعه لنفسه، ومجاذبته لطبعه مع الغيظ الشّديد، والقدرة الظاهرة، أشدّ عليه في المزاولة وأبلغ في المشقّة والمكابدة، من صبر الشّكل على أذى شكله، واحتمال المظلوم عن مثله، وإن خاف الطمس، وتوقّع العيب.
فصل منه: ومن بعد هذا، فمن شأن الأيّام أن يظلم المرء أكثر محاسنه ما كان تابعا، فإذا عاد متبوعا عادت عليه من محاسن غيره بأضعاف ما منعته من محاسن نفسه، حتّى يضاف إليه من شوارد الأفعال، ومن شواذّ المكارم إن كان سيّدا، ومن غريب الأمثال إن كان منطيقا، ومن خيار القصائد إن كان شاعرا، مما لا أمارات لها، ولا سمات عليها.
فكم من يد بيضاء وصنيعة غرّاء، ضلّت فلم يقم بها ناشد، وخفيت فلم يظهرها شاكر. والذي ضاع للتّابع قبل أن يكون متبوعا، أكثر ممّا حفظ، والذي نسي أكثر مما ذكر، وما ظنّك بشيء بقيّته تهب السّيادة، ومشكوره يهب الرياسة، على قلّة الشّكر، وكثرة الكفر.
وقد يكون الرجل تامّ النّفس ناقص الأداة، فلا يستبان فضله، ولا يعظّم قدره، كالمفرج الذي لا عشيرة له، والإتاويّ الذي لا قوم له. وقد يعظّم المفرج الذي لا ولاء له ولا عقد جوار، ولا عهد حلف، إذا برع في الفقه وبلغ في الزّهد، بأكثر من تعظيم السيّد، كجهة تعظيم الدّيّان. كما أنّ طاعة السّلطان غير طاعة السّادة، والسّلطان إنّما يملك أبدان الناس، ولهم الخيار في عقولهم، وكذلك الموالي والعبيد.
وطاعة النّاس للسيّد، وطاعة الديّان طاعة محبّة ودينونة، والقلوب أطوع لهما من الأبدان، إلّا أن يكون السلطان مرضيّا، فإن كان كذلك فهو أعظم خطرا من السيّد، وأوجه عند الله من ذلك الدّيّان.
وربّما ساد الأتاويّ لأنّه عربيّ على حال. والمفرج لا يسود أبدا لأنّه عجميّ لا حلف له، ولا عقد جوار، ولا ولاء معروف، ولا نسب ثابت. وليس التّسويد إلّا في العرب، والعجم لا تطيع إلّا للملوك.
والذي أحوج العرب في الجاهليّة إلى تسويد الرّجال وطاعة الأكابر، بعد دورهم من الملوك والحكّام والقضاة، وأصحاب الأرباع، والمسالح والعمّال.
فكان السيّد، في منعهم من غيرهم ومنع غيرهم منهم، ووثوب بعضهم على بعض، في كثير من معاني السّلطان.















مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید