المنشورات

فضائل البطون في القرآن والسنة والحكم

فصل منه: نبدأ الآن بذكر ما خصّ الله به البطون من الفضائل، ليرجع راجع، وينيب منيب مفكّر، وينتبه راقد، ويبصر متحيّر، ويستغفر مذنب، ويستقيل مخطىء، وينزع مصرّ، ويستقيم عاند، ويتأمّل غمر، ويرشد غويّ، ويعلم جاهل، ويزداد عالم.
قال الله عزّ وجل فيما وصف به النّحل: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خير بطون قريش.
ووجدنا الأغلب في صفة الرجل أن يقال إنّه معروف بكذا مذ خرج من بطن أمّه، ولا يقال من ظهر أبيه.
ويقال في صفات النّساء: «قبّ البطون نواعم» . ويقال: خمصانة البطن، ولا يقال: خمصانة الظّهر.
ويقال: فلان بطن بالأمور، ولا يقال: ظهر. ويقال: بطانة الرّجل وطهارته، فيبدأ بالبطانة. 
وبطن القرطاس خير من ظهره، وبطن الصّحيفة موضع النّفع منها لا ظهرها، وببطن القلم يكتب لا بظهره، وببطن السّكّين يقطع لا بظهرها.
وخلق الله جلّ وعزّ آدم من طين، ونسله من بطن حوّاء.
ورأينا أكثر المنافع من الأغذية في البطون لا في الظّهور؛ فبطون البقر أطيب من ظهورها، وبطن الشّاة كذلك.
ومن أفضل صفات عليّ رضي الله عنه أن كان أخمص بطينا.
وأسمع من غنائهم:
بطني على بطنك يا جاريه ... لا نمطا نبغي ولا باريه
ولم يقل «ظهري على ظهرك» ، فجعل مماسّة البطن غانيا عن الوطاء، كافيا من الغطاء.
ولو لم يكن في البطن من الفضيلة إلّا أنّ الوجه الحسن، والمنظر الأنيق من حيّزه، وفي الظهر من العيب، إلّا أنّ الدّبر في جانبه، لكان فيها أوضح الأدلة على كرم البطن ولؤم الظهر.
ولم نرهم وصفوا الرجل بالفحولة والشّجاعة إلّا من تلقائه، وبالخبث والأبنة إلّا من ظهره.
وإذا وصفوا الشّجاع قالوا: مرّ فلان قدما، وإذا وصفوا الجبان قالوا:
ولّى مدبرا.
ولشتّان بين الوصفين: بين من يلقى الحرب بوجهه وبين من يلقاه بقفاه، وبين الناكح والمنكوح، والراكب والمركوب، والفاعل والمفعول، والآتي والمأتيّ، والأسفل والأعلى، والزائر والمزور، والقاهر والمقهور.
ولمّا رأينا الكنوز العاديّة والذّخائر النفسية، والجواهر الثّمينة مثل الدّرّ الأصفر، والياقوت الأحمر، والزّمرّد الأخضر، والمسك والعنبر والعقيان واللّجين، والزّرنيخ والزّئبق، والحديد والبورق، والنّفط والقار، وصنوف الأحجار، وجميع منافع العالم وأدواتهم وآلاتهم، لحربهم وسلمهم، وزرعهم وضرعهم، ومنافعهم ومرافقهم ومصالحهم، وسائر ما يأكلونه ويشربونه، ويلبسونه ويشمّونه، وينتفعون برائحته وطعمه، ودائع في بطون الأرض، وإنّما يستنبط منها استنباطا، ويستخرج منها استخراجا، وإنّ على ظهرها الهوامّ القاتلة، والسّباع العادية التي في أصغرها تلف النفوس ودواعي الفناء وعوارض البلاء، وأنّه قل ما يمشي على ظهرها من دابّة، إلّا وهو للمرء عدوّ، وللموت رسول، وعلى الهلكة دليل- لم يمتنع [في] عقولنا، وآرائنا ومعرفتنا من الإقرار بتفضيل البطن على الظهر في كلّ وقت، وعلى كلّ حال.
ومن فضيلة البطن على الظّهر أنّ أحدا إن ابتلي فيه بداء كان مستورا، وإن شاء أن يكتمه كتمه عن أهله، ومن لا ينطوي عنه شيء من أمره، وغابر دهره.
ومن بليّة الظّهر أنّه إن كان داء ظهر وبان، مثل الجرب والسّلع والخنازير وما أشبهها، مما سلمت منه البطون وجعل خاصّا في الظّهور.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید