المنشورات

تفضيل الظهر على البطن يثير الشك

فصل منه: وقد رأيت منك أيّها الرّجل إفراطك في وصف فضيلة الظّهور، وفي محلّ الرّيبة وقعت، لأنّا روينا عن عمر أنّه قال: «من أظهر لنا خيرا ظننّا به خيرا، ومن أظهر لنا شرّا ظننا به شرّا» .
وإنّما يصف فضل الظّهر من كان مغرما بحبّ الظهور، وإلى ركوبه صبّا، وبالنّوم عليه مستهترا، وبالولوع بطلبه موكّلا، ومن كان للحلال مباينا، ولسبيله مفارقا، ولأهله قاليا، وللحرام معاودا، وبحبله مستمسكا وإلى قربه داعيا، ولأهله مواليا.
وقد اضطررتنا بتصييرك المفضول فاضلا، والعامّ خاصّا، والخسيس نفيسا، والمحمود مذموما، والمعروف منكرا، والمؤخّر مقدّما والمقدّم مؤخّرا، والحلال حراما، والحرام حلالا، والبدعة سنّة، والسّنّة بدعة، والحظر إطلاقا، والإتلاق حظرا، والحقيقة شبهة والشّبهة حقيقة، والشّين زينا والزّين شينا، والزّجر أمرا والأمر زجرا، والوهم أصلا والأصل وهما، والعلم جهلا والجهل فضلا- إلى أن أدخلنا عليك الظّنّ، وألحقناك التّهمة، ونسبناك إلى غير أصلك، ونحلناك غير عقيدتك، وقضينا عليك بغير مذهبك. و «يداك أوكنا، وفاك نفخ» . فلا يبعد الله غيرك! أوجدنا أيّها الضالّ المضلّ، المغلوب على رأيه، المسلوب فهمه، المولّي على تمييزه، النّاكص على عقبه في اختياره، المفارق لأصل عقده، المدبر بعد الإقبال في معرفته، السّاقط بعد الهوى في ورطته، المتخلّي من فهمه، الغنيّ عن إفهامه، المضيّع لحكمته، المنزوع عقله، المختلس لبّه، المستطار جنانه، المعدوم بيانه، في الظّهور بعد الفضائل التي أوجدناكها في البطون، إمّا قياسا، وإمّا اختيارا، وإمّا ضرورة، وإما اختبارا وإمّا اكتسابا، أو في كتاب منزل، أو سنّة مأثورة، أو عادة محمودة، أو صلاح على خير.
أم هل لك في مقالتك في إمام تأتمّ به، أو أستاذ تقتفي أثره، وتهتدي بهداه، وتسلك سننه.
فصل منه: وقد حضّتني عليك عند انتهائي إلى هذا الموضع رقّة، وتداخلتني لك رحمة، ووجدت لك بقيّة في نفسي؛ لأنّه إنّما يرحم أهل البلاء.
والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وفضّلنا على كثير من خلقه تفضيلا.
فرأيت أن أختم بأبسط الدّعاء لك كتابي، وأن أحرز به أجري وثوابي، ورجوت أن تنيب وترجع بعد الجماح واللّجاج، فإنّ للجواد استقلالا بعد الكبوة، وللشّجاع كرّة بعد الكشفة، وللحليم عطفة بعد النّبوة.
وأنا أقول: جعلنا الله وإيّاك ممن أبصر رشده، وعرف حظّه، وآثر الإنصاف واستعمله، ورفض الهوى واطّرحه؛ فإنّ الله تعالى لم يبتل بالهوى إلّا من أضلّه، ولم يبعد إلّا من استبعده.
















مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید