المنشورات

مبررات مزج الجد بالهزل

بالله نستعين واياه نستهدي وعليه نتوكل.
ان لكل نوع من العلم اهلا يقصدونه ويؤثرونه، واصناف العلم لا تحصى، منها الجزل ومنها السخيف. واذا كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله، وداخل في باب حد المزح، فابدلت السخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وضع على ان يسر النفوس يكربها ويغمها.
ومتى كان صاحب علم ممرنا موقحا، الف تفكير وتنقيب ودراسة، وحلف تبين، وكان ذلك عادة له، لم يضره النظر في كل فن من الجد والهزل؛ ليخرج بذلك من شكل الى شكل. فان الاسماع قد تمل الاصوات المطربة والاوتار الفصيحة والاغاني الحسنة، اذا طال ذلك عليها.
وقد روي عن ابي الدرداء، رضي الله عنه، انه قال: «اني لاستجم نفسي ببعض الباطل مخافة ان أخمل عليها من الحق ما يملها» .
وقد روي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه قال: «العلم اكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء احسنه» .
وروي عن الشّعبي أنه قال: «إنّ القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة» .
وبعض من يظهر النسك والتقشّف إذا ذكر الحر والأير والنّيك تقزّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من المعرفة والكرم، والنّبل والوقار، إلّا بقدر هذا التصنّع.
ولو علم أنّ عبد الله بن عباس أنشد في المسجد الحرام وهو محرم:
وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطّير ننك لميسا
فقيل له: إنّ هذا من الرّفث! فقال: إنما الرّفث ما كان عند النساء وقول عليّ رضوان الله عليه ودخل على بعض أهل البصرة، ولم يكن في حسبه بذاك، فقال: من في هذه البيوت؟ فقال: عقائل من عقائل العرب. فقال: «من يطل أير أبيه ينتطق به» .
فعلى عليّ في التّنزّه يعوّل.
وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبديل بن ورقاء يوم الحديبية، وقد تهدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عضضت ببظر اللات، أنحن نخذله؟!» .
وقول حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه: «وأنت يا ابن مقطّعة البظور ممن يكثّر علينا!» .
وحديث مرفوع: «من عذيري من ابن أمّ سباع مقطّعة البظور» .
ولو تتبّعت هذا وشبهه وجدته كثيرا.
وإنّما وضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألّا يلفظ بها ما كان لأوّل كونها معنى، ولكان في التّحريم والصّون للغة العرب أن ترفع هذه الأسماء والألفاظ منها.
وقد أصاب كلّ الصّواب من قال: «لكلّ مقام مقال» .
ولو كان ممّن يتصوّف ويتقشّف، علم قول امرأة رفاعة القرظيّ تجبهه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محتشمة: إنّي تزوّجت عبد الرحمن بن الزّبير، وإنّما معه مثل هدبة الثّوب، وكنت عند رفاعة فطلّقني- ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على التبسّم حتى قضت كلامها- فقال: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك» .
ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها- لعلم أنّه على سبيل التّصنّع والرّياء.
ولو سمعوا حديث ابن حازم حين زعم أنّه يقيم ذكره ويصعد السّلّم وامرأته متعلّقة بذكره حتّى يصعد.
وحديث ابن أخي أبي الزّناد إذ يقول لعمّه: أنخر عند الجماع؟ قال:
يا بنيّ إذا خلوت فاصنع ما أحببت. قال: يا عمّ، أتنخر أنت؟ قال: يا بنيّ، لو رأيت عمّك يجامع لظننت أنّه لا يؤمن بالله العظيم! وهذان من ألفاظ المجان.
وروى عن بعض الصّالحين من التابعين رحمه الله، أنه كان يقول في دعائه: اللهمّ قوّ ذكري على نكاح ما أحللت لي.
ونحن لم نقصد في ذكرنا هذه الأخبار الردّ على من أنكر هذه الأمور، ولكنّا لما ذكرنا اختصام الشّتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضّأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللّاطة والزّناة، وذكرنا ما نقل حمّال الآثار وروته الرّواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان في بعض البطالات، فأردنا أن نقدّم الحجّة لمذهبنا في صدر كتابنا هذا.
ونعوذ بالله أن نقول ما يوتغ ويردي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدّين والدّنيا برحمته.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید