المنشورات

مفاخرة اهل البصرة والكوفة

وإن كنت إلى التقشّف والتزهيد في اللّذّات تعمد فترك جميع الشّهوات من النساء وغيرهنّ أفضل. فإن أنصفت فأتنا بمثل حجّتنا. فأمّا أن تتلو علينا القرآن وتأتينا بأحاديث ألّفتها فهذا منك انقطاع. ومثلنا ومثلك في ذلك مثل بصريّ وكوفيّ تفاخرا بعدد أشراف أهل البصرة وأشراف أهل الكوفة، فقال البصريّ للكوفيّ:
هات في أربع قبائل الكوفة مثل أربعة رجال بالبصرة في أربع قبائل:
في تميم الكوفة مثل الأحنف، وفي بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع، وفي قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، وفي أزد الكوفة مثل المهلب.
فقال الكوفيّ: مخنف بن سليم من أزد السّراة، وهم أشرف من أزد عمان.
فقال البصريّ: إنا لم نكن في شرف القبائل وفرق ما بينها، فإنما ذكرنا المهلّب بنفسه، وما علمت أن أحدا يبلغ من جهله أن يفخر بمخنف بن سليم فيفضّله على المهلب. وأخمل رجل من ولد المهلّب أشهر في الولايات وفي الفرسان وفي الناس من مخنف. والمهلّب رجل ليس له بالعراق نظير يقاومه، ومناقبه وأيّامه وفتوحه أكثر وأشهر من أن يجوز لنا أن نجعله إزاء مخنف. وما زالوا يقولون: «بصرة المهلّب» . ولو لم يكن للمهلّب إلّا أنه ولد يزيد بن بن المهلّب كان كافيا. ونحن إذا قلنا: ليس في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، قال قائل: فزارة أشرف من باهلة. قلنا: ليس هذه معارضة؛ فإنّما المعارضة أن تذكر أسماء بن خارجة ثم تقول ونقول، فنذكر فتوح قتيبة العظام، والشّهامة والنفس الأبية، والشّجاعة والحزم والرأي، والوفاء، وشرف الولاية، ونذكر سودد أسماء، وجوده ونواله. فأمّا أن نتخطّى أنفسهما إلى قبائلهما كما تخطّيت بدن المهلّب وبدن مخنف إلى أزد عمان وأزد السّراة، فهذا ليس من معارضة العلماء.
وكذلك إذا ذكرنا عبّاد البصرة وزهّادها ونسّاكها فقلنا: لنا مثل غامر بن عبد قيس، وهرم بن حيّان، وصلة بن أشيم. قلت: فعبّاد الكوفة: أويس القرنيّ، والرّبيع بن خثيم، والأسود بن يزيد النّخعي. وهذا جواب.
فأمّا أن تذكر طيب الدّنيا والتمتّع من لذّاتها وصفات محاسنها، وتذكر ظرفاءها وأربابها، وتجيئنا بأحاديث الزهّاد والفقهاء، فقد انقطع الحجاج بيننا وبينك.
وقد قلنا في صدر كتابنا: إن الكلام إذا وضع على المزح والهزل، ثم أخرجته عن ذلك إلى غيره من الجدّ، تغيّر معناه وبطل.
وقد روي أنّ معاوية سأل عمرو بن العاص يوما- وعنده شباب من قريش- فقال له: يا أبا عبد الله، ما اللذّة؟ فقال: مر شباب قريش فليقوموا. فلما قاموا قال: «إسقاط المروءة» .
قال الشاعر في مثل ذلك:
من راقب النّاس مات غمّا ... وفاز باللّذّة الجسور
وقال الحكميّ:
تجاسرت فكاشفت ... ك لمّا غلب الصّبر 
وما أحسن في مثل ... ك أن ينهتك السّتر













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید