المنشورات
الحفظ والاستنباط
فصل منه: وأجمعوا على أنّهم لم يجدوا كلمة أقلّ حرفا ولا أكثر ريعا، ولا أعمّ نفعا، ولا أحثّ على بيان، ولا أدعى إلى تبيّن، ولا أهجى لمن ترك التفهّم وقصّر في الإفهام، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
«قيمة كلّ امريء ما يحسن» .
وقد أحسن من قال: «مذاكرة الرّجال تلقيح لألبابها» .
وكرهت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودة الحفظ، لمكان الاتّكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتّى قالوا: «الحفظ عذق الذّهن» . ولأنّ مستعمل الحفظ لا يكون إلّا مقلّدا، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعزّ الثقة.
والقضيّة الصحيحة والحكم المحمود: أنّه متى أدام الحفظ أضرّ ذلك بالاستنباط، ومتى أدام الاستنباط أضرّ ذلك بالحفظ، وإن كان الحفظ أشرف منزلة منه.
ومتى أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، ومتى أهمل الحفظ لم تعلق بقلبه، وقلّ مكثها في صدره.
وطبيعة الحفظ غير طبيعة الاستنباط. والذي يعالجان به ويستعينان متّفق عليه، [ألا] وهو فراغ القلب للشيء، والشّهوة له، وبهما يكون التمام، وتظهر الفضيلة.
ولصاحب الحفظ سبب آخر يتّفقان عليه، وهو الموضع والوقت.
فأمّا الموضع فأيّهما يختار إذا أرادا ذلك الفوق دون السفّل.
وأمّا السّاعات فالأسحار دون سائر الأوقات، لأنّ ذلك الوقت قبل وقت الاشتغال، وبعقب تمام الراحة والجمام، لأنّ للجمام مقدارا هو المصلحة، كما أنّ للكدّ مقدارا هو المصلحة.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)