المنشورات

النبيذ شقيقك الذي شغلت عنه

علم الله أنّه استظرفك واستملحك، واستحسن قدّك، واسترجح عقلك، وأحسن بك ظنّا، ورآك لنفسه أهلا، ولاتّخاذه موضعا، وللأنس به مكانا، وأنت لاه عنه زار عليه متهاون به، قد اقبلت على ديوانك تشغل بملازمته وتدع ما يجب عليك من صفاته، والدّعاء إلى تعظيمه. بل هل كنت من شيعته والذابّين عن دولته، والمعروفين بالانقطاع إليه، والانبتات في حبله، إلّا أن يكون عندك التقصير لحقّه، والتّهاون بأمره اللازم، ونهي الناس عنه.
ولو خرجت إلى هذا لخرجت من جميع الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية. وأحسب أنّك لا تعظّمه ولا ترقّ له. ولو لم تتعصّب إلّا لجماله وحسنه، ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجبا، وأمرا معروفا.
فكيف مع المناسبة التي بينكما، والشّكل الذي يجمعكما. فإن كان بعضك لا يصون بعضا وأنت لا تعظّم شقيقا، فأنت والله من حفظ العشيرة أبعد، ولمعرفة الصّديق أنكر.
ولقد نعيت إليّ لبّك، وأثكلتني حفاظك، وأفسدت عندي كلّ صحيح.
وقد كان يقال: «لا يزال النّاس بخير ما تعجّبوا من العجب» . قال الشاعر:
وهلك الفتى أن لا يراح إلى النّدى ... وأن لا يرى شيئا عجيبا فيعجبا
قال بكر بن عبد الله المزنيّ: «كنا نتعجّب من دهر لا يتعجّب أهله من العجب فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن. ومن لا يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح» .
وقال بعضهم: «العجب ترك التعجّب من العجب» .
ولم أقل ذلك إلّا لأن تكون به ضنينا، وبما يجب له عارفا. ولكنّك لم توفّر حقّه ولم توف نصيبه.
فإن قلت: ومن يقضي واجب حقّه، وينتهض بجميع شكره؟ قلنا:
فهل أعذرت في الاجتهاد حتّى لا يذمّ إلّا تعجّبك، وهل استغرقت الاعتذار حتّى لا تعاب إلّا بما زاد على قوّتك. ولولا أنك عين الجواد لم نطلبه منك. ولولا ظنّك لم نحمدك عليه. ولولا معرفتك بفضله لم نعجب من تقصيرك في حقّه، ولولا أنّ الخطأ فيك أقبح، والقبيح منك أسمج، وهو فيك أبين والنّاس به أكلف، والعيون إليه أسرع- لكان كتابنا كتاب مطالبة، ولم يكن كتاب معاتبة، ولشغلنا الحلم لك عن الحلم عليك، والقول لك عن القول فيك.
وقد كنت أهابك بفضل هيبتي لك، وأجترىء عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع، وخوف المشفق، وأمن الواثق، وقناعة الراضي.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید