المنشورات

الجاحظ يطلب النبيذ ويخشى أن يرد طلبه

وبعد فمن طلب ما لا يجاد به، وسأل ما لا يوهب مثله ممّن يجود بكلّ ثمين، ويهب كلّ خطير، فواجب أن يكون من الردّ مشفقا، وبالنّجح موقنا.
وإن كان، أبقاك الله، أهلا لأن يمنع، وكنت حفظك الله أهلا أن تبذل، وجب أن تكون باذلا مانعا، وساكنا مطمئنا، إلّا أن يكون الحرب سلما سجالا، والحالات دولا.
ولهذه الخصال ما وقع الطّلب، وشاع الطمع.
فإن منعت فعذرك مبسوط عند من عرف قدره، وإن بذلت فلم تعد الذي أنت أهله عند من عرف قدرك، إلّا أنّه لا يجود بمثله إلّا غنيّ عند جميع الناس، أو عاقل فوق جميع الناس.
وكيف لا أطلب طلب الجريء المتهوّر، وأمسك إمساك الهائب الموقّر.
وليس في الأرض خلق يغتفر في وصفه المحال ولا يستحسن الهذيان سواه؟!
على أنّ من الهذيان ما يكون مفهوما، ومن المحال ما يكون مسموعا.
فمن جهل ذلك ولم يعرفه، وقصّر ولم يبلغه، فليسمع كلام اللهفان والثّكلان، والغضبان والغيران، ومرقّصة الصّبيان، والمنعظ إذا دنا منه الحلقي.
حتّى إذا استوهبك لم تهب له منه حتّى تقف وقفة، وتطرق ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفّع على مستوهبه، وتعجّب من شاربه، ثم تطيل الكتاب بالامتنان، وتسطّر فيه بتعظيم الإنعام مع ذكر مناقه، ونشر محاسنه بقدر الطاقة. وإن لم تبلغ الغاية فاعرف وزنه، واشهد بطيبه، وأرّخ ساعته، واشهر في النّاس يومه.
وما ظنّك بشيء لا تقدر أن تشرد في ذكره وتفرّط في مدحه، وتقصيرك واضح في لونه، مكتوب في طعمه، موجود في رائحته، إذ كان كلّ ممدوح يقصر عن مدحه وقدره، ويصغر في جنبه.
ولو لم يستدلّ على سعادة جدّك، وإقبال أمرك، وأنّ لك زيّ صدق في المعلوم، وحظّا في الرّزق المقسوم، وأنّك ممن تبقى نعمه، ويدوم شكره، ويفهم النّعمة ويروبّها، ويدرأ عنها ويستديمها، إلّا أنّه وقع في قسمك، وكان في نصيبك- لكان ذلك أعظم البرهان، وأوضح الدلالة.
بل لا نقول: إنّه وقع اتفاقا وغرسا نادرا، حتّى يكون التّوفيق هو الذي قصد به، والصّنع هو الذي دلّ عليه.









مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید