المنشورات
انواع النبيذ
فصل منه: وقلت: ومن الحلو في المعد التّخم، وفي الأبدان الوخم، وللتّرش شيرين رياح كمثل رياح العدس، وحموضة تولّد في الأسنان الضّرس.
والسّكر فحسبك بفرط مرارته، وكسوف لونه، وبشاعة مذاقه، ونفار الطّبيعة عنه.
وأنواع ما يعالج من التّمور والحبوب فشربها الدّاء العضال.
وللمسجور، والبتى، وأشباهها كدورة ترسب في المعدة، وتولّد بين الجلدتين الحكّة. وأشباه هذا كثيرة تركت ذكرها، لأنّي لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليل ما يجلب المضرة.
ولكن ما تقول فيما يسرّك ولا يسوءك، وما إذا شربته تلقّته العروق فاتحة أفواهها كأفواه الفراخ، محسّنا للّون ملذّة للنّفس، يجثم على المعدة، ويرود في العروق، ويقصد إلى القلب فيولّد فيه اللّذّة، وفي المعدة الهضم، وهو غسولها ونضوحها، ويسرع إلى طاعة الكبد، ويفيض بالعجل إلى الطّحال، وينتفخ منه العروق، وتظهر حمرته بين الجلدتين، ويزيد في اللّون، ويولّد الشّجاعة والسّخاء، ويريح من اكتنان الضّغن، ويعفّي على تغيّر النّكهة، وينفي الذّفر، ويسرع إلى الجبهة، ويغني عن الصّلاء، ويمنع القرّ؟! وما تقول في نبيذ الزّبيب الحمصيّ والعسل الماذّي إذا تورّد لونه، وتقادم كونه، ورأيت حمرته في صفرته تلوح. تراه في الكأس لكأنّه بالشّمس ملتحف، شعاعه يضحك في الأكفّ؟
وما تقول في عصير الكرم إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه، وأحسن الدّنّ نتاجه، فإذا فضّ عن غضارة قد صار في لون البجاديّ في صفاء ياقوتة تلمع في الأكفّ لمع الدّنانير، ويضيء كالشّهاب المتّقد.
وما تقول في نبيذ عسل مصر، فإنّه يؤدّي إلى شاربه الصّحيح من طعم الزّعفران، لا يلبس الخلقان ولا يجود إلّا في جدد الدّنان، ولا يستخدم الأنجاس ولا يألف الأرجاس. وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينقض على شيء من الأجسام لونه حتّى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض يققا. وحسبك به في رقّة الهواء، يكدّره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهزبر ذي الأشبال، المفترس للأقران، من عاقره عقره، ومن صارعه صرعه؟! وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياد إذ يعود صلبا من غير أن يسلّ سلافه، أو يماط عنه ثفله، حتّى يعود كلون العقيق، في رائحة المسك العتيق. أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة، وأشدّها خشونة. ثمّ لا يستعين بعسل ولا سكّر ولا دوشاب. وما ظنّك به وهو زبيب نقيع، لا يشتدّ ولا يجود إلّا بالضّرب الوجيع؟! وما تقول في الدّوشاب البستانيّ، سلالة الرّطب الجنيّ بالحبّ الرتيليّ، إذا أوجع ضربا، وأطيل حبسا، وأعطى صفوه ومنح رفده، وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطّين ظهر في لون الشّقر والكمت وسطع برائحة كالمسك. وإذا هجم على المعدة لانت له الطّبائع، وسلست له الأمعاء، وأيس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له اليبوسة، وأذعنت له بالطّاعة، وابتلّ به الجلد القحل، وارتحل عنه الباسور، وكفى شاربه الوخز.
فإذا شجّ بماء تلظّى ورمى بشرره، هل يحلّ أن يشعشع إذا سكن جأشه، وآب إليه حلمه.
وما تقول في المعتّق من أنبذة التّمر، فإنّك تنظر إليه وكأنّ النّيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتّى لكأنّ شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند في وجه سيف. وله صفيحة مرآة مجلوّة تحكي الوجوه في الزّجاجة، حتّى يهم فيها الجلّاس؟! وما تقول في نبيذ الجزر، الذي منه تمتدّ النّطفة وتشتدّ النّقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخّ العظام؟! وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونه لون زمرّدة خضراء صافية، محكم الصّلابة، مفرط الحرارة، حديد السّورة، سريع الإفاقة عظيم المؤونة، قصير العمر، كثير العلل، جمّ البدوات تطمع الآفات فيه، وتسرع إليه؟! وما تقول في نبيذ التّين فإنّك تعلم أنّه مع حرارته ليّن العريكة، سلس الطّبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضوح للكبد فتّاح للسّدد، غسّال للأمعاء، هيّاج للباه، أخّاذ للثّمن، جلّاب للمؤن، مع كسوف لون وقبح منظر؟! وما تقول في نبيذ السكّر الذي ليس مقدار المنفعة به على قدر المؤونة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنى معقول؟! وما تقول في المروّق والغربيّ والفضيح؟ ألذّ مشروبات في أزمانها وانفع مأخوذات في إبّانها. أقلّ شيء مؤونة، وأحسنه معونة، وأكثر شيء قنوعا، وأسرعه بلوغا، ضموزات عروفات للرجل ألوفات. ولها أراييح على الشاهسفرم كأذكى رائحة تشمّ، أقلّ المشروبات صداعا، وأشدّهن خداعا.
فصل منه: وكرهت أيضا تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليل، دون التأمّل والاعتبار بأنّ ظلام الشّكّ لا يجلوه إلّا مفتاح اليقين.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)