المنشورات
البلاغة والإيجاز
فصل منه: قال عمرو بن بحر الجاحظ: درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز، وحمد الاختصار، وذمّ الإكثار والتّطويل والتكرار، وكلّ ما فضل عن المقدار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصّمت، دائم السّكت يتكلّم بجوامع الكلم، لا فضل ولا تقصير، وكان يبغض الثّرثارين المتشدّقين.
وكان يقال: أفصح الناس أسهلهم لفظا، وأحسنهم بديهة.
والبلاغة إصابة المعنى والقصد إلى الحجّة مع الإيجاز، ومعرفة الفصل من الوصل.
وقيل: العاقل من خزن لسانه، ووزن كلامه، وخاف النّدامة.
وحسن البيان محمود، وحسن الصّمت حكم.
وربّما كان الإيجاز محمودا، والإكثار مذموما. وربّما رأيت الإكثار أحمد من الإيجاز. ولكلّ مذهب ووجه عند العاقل. ولكلّ مكان مقال، ولكلّ كلام جواب. مع أنّ الإيجاز أسهل مراما وأيسر مطلبا من الاطناب، ومن قدر على الكثير كان على القليل أقدر.
والتّقليل للتخفيف، والتّطويل للتعريف، والتّكرار للتوكيد، والإكثار للتشديد.
فصل منه: وأمّا المذموم من المقال، فما دعا إلى الملال، وجاوز المقدار، واشتمل على الإكثار، وخرج من مجرى العادة.
وكلّ شيء أفرط في طبعه، وتجاوز مقدار وسعه، عاد إلى ضدّ طباعه، فتحوّل البارد حارّا، ويصير النافع ضارا، كالصّندل البارد إن أفرط في حكّه عاد حارّا مؤذيا، [و] كالثلج يطفىء قليله الحرارة، وكثيرة يحرّكها.
وكذلك القرد لمّا فرط قبحه، وتناهت سماجته استملح واستطرف.
وإلى هذا ذهب من عدّ الإكثار عيّا، والإيجاز بلاغة.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)