المنشورات
الجاحظ يستعطف ابن الزيات بشيخوخته وافضاله عليه ابان شبابه
ولو أنّ شيبتي التي بها استعطفتك، وكبرة سنيّ التي بها استرحمتك، اللتان لم يحدثا عليّ إلّا وأنا في ذراك، ولم يحلّا بي إلّا وأنا في ظلّك، لكان في شفاعة الكبرة، واسترحام الضّعف والوهنة، ما يردعك عنّي أشدّ الردع، ويؤثّر في طباعك أبين الأثر. فكيف وقد أكرمتني جديدا، ثم تريد أن تهينني خلقا، وقوّيت عظمي أغلظ ما كان، ثم تريد أن توهنه أرقّ ما كان.
وهل هرمت إلّا في طاعتك، وهل أخلقني إلّا معاناة خدمتك!.
قال علي بن أبي طالب: رأي الشّيخ الضّعيف أحبّ إلينا من جلد الشابّ القويّ.
وأنا أقول كما قال أخو ثقيف: مودّة الأخ التالد وإن أخلق خير من من مودّة الطارف وإن ظهرت بشاشته، وراعتك جدّته.
وقال عبد الملك بن مروان: رأي الشيخ أحبّ إلينا من مشهد الغلام.
وقال بعضهم: ليس بغائب من شهد رأيه، وليس بفان من بقي أثره.
وما كمّل العقل ولا وفّر التجربة شيء كنقصان البدن، وكأخذ الأيّام من قوى الأعضاء.
وقال آخر: ما قبّح الرجال شيء كالوكال، ولا أفسد الكريم شيء كحبّ الاستطراف. وخير الناس من أتبع العقاب مواقع الغضب، ولم يتبع الغضب مواقع الهوى.
ولقد منحتك جلد شبابي كملا، وغرب نشاطي مقتبلا، وكان لك مهناه، وثمرة قواه، واحتملت دونك عرامه وغربه، وكان لك غنمه وعليّ غرمه، وأعطيتك عند إدبار بدني قوّة رأيي، وعند تكامل معرفتي نتيجة تجربتي، واحتملت دونك وهن الكبر وإسقام الهرم.
وخير شركائك من أعطاك ما صفا، وأخذ لنفسه ما كدر. وأفضل خلطائك من كفاك مؤونته، وأحضرك معونته، وكان كلاله عليه، ونشاطه لك.
وأكرم دخلائك وأشكر مؤمّليك من لا يظنّ أنك تسمّي جزيل ما تحتمل في بذلك ومواساتك مؤونة، ولا تتابع إحسانك إليه نعمة، بل يرى أنّ نعمة الشاكر فوق نعمة الواهب، ونعمة الوادّ المخلص فوق نعمة الجواد المغنى؛ وأنّه لا يبلغ في إعطاء المجهود من نفسه في خلع جميع ما له إلى مؤملّيه والمتحرّمين به، حسن نيّة الشاكر الوامق، وحقّ تمنّي الوادّ العارف.
ولو اقتضيت جميع حقوقك عليّ، وأنكرت جميع حقوقي عليك، أو جعلت حقّي عليك حقّا لك، ثمّ زعمت أنّ حقّك لا يؤدّي إلى شكره، وأنّ حقّي لا يلزم حكمه، وأنّ إحساني إساءة، وأنّ الصغير من ذنوبي كبير، وأنّ اللّمم منّي إصرار، وأنّ خطائي عمد، وأنّ عمدي كلّه كفر، وأنّ كفري يوجب القمع ويمنع من النّزوع لما كان عندك. وما اتّسع قولي لأكثر من هذا العقاب، ولا أشدّ من هذا الغضب. وما ينبغي أن يكون هذا المقدار من النّقم إلّا لبارىء النّسم في دار البقاء، لا في دار الفناء. [و] الذي يجوز بين العباد إنّما هو تعزير أو حدّ، أو قود أو قصاص، أو حبس أو تغريب، أو إغرام أو إسقاط عدالة، أو إلزام اسم العداوة، أو عقاب يجمع الألم والتّقويم والتنكيل، فيكون مضض الألم جزاء له ومعدّلا أسبابه.
وربّما قصر الإيقاع على السّخط وجاوز حدّ الغضب. وربّما كان مقصورا على مقدارهما، ومحبوسا على نهاية حالهما.
وليس كلّ عقاب نتيجة سخط، وقد لا يسمّى ذلك الموقع والمعاقب واجدا كما يسمّى ساخطا، ولا يسمّى عاتبا كما يسمّى غضبان، فيخرج كما ترى من أن يسمّى سخطا أو موجدة وغضبا، كما خرج عقاب آدم عليه السلام من هاتين الصّفتين، ومن جميع القسمين. وعلى أنه كان إخراجا من دار الخلد والكرامة إلى دار الابتلاء والمحنة؛ ومع ما في ذلك من إعراء الجلد، والتّسمية بالظلم، مع الوصف له بضعف العزم، والاغترار بيمين الخصم.
والعجب أنك تضجر من طول مسألتنا لعفوك مع حاجتنا إلى عاجل عفوك، ولا تضجر بطول تشاغلك بظلم صديقك مع استغنائك عن ظلم صديقك. فلو كنت إنّما تفعل ذلك لأنّك تلذّ ضرب السّياط ورضّ العظام، فجنب «دندن» أحمل، والسّوط في ظهر قاسم أحسن، وأبدانهما تحت السّياط أثبت، وإنّ أرواحهما أبقى، وهي بأرواح الكلاب أشبه، وإلى طبائع الضّباب أقرب، وأرحامهم بالحمير أمسّ، ومن يشير فيهم بذلك أكثر، والأجر في ضربهم أعظم. فاستدم اللذّة بطريق اللّذّة، وضع الأمور في مواضعها يطل سرورك بها.
إنّ عتاق الخيل وأحرار الطّير أدقّ حسّا، وأشدّ اكتراثا. والكوادن الغلاظ والمحامر الثّقال، أكلّ حسّا وأقلّ اكتراثا. وليس الصّبر بالصّمت والسكوت، ولا بقلّة الصّياح والضّموز. وقد يصيح تحت السّوط من لا يقرّ على صاحبه، ولا يدلّ على عورة نفسه. والكلب المضروب يجمع الصّياح والهرب، والفرس العتيق يعدو ولا يصيح، والحافر كلّه كظوم ضامز، والمخلب كلّه ضجور صيّاح، والضّجر في الخفّ عامّ، والبخاتيّ أضجر. فسمن الظلف عامّ، وهو في الضّأن أخفى، وكلّ مضروب هارب صيّاح، ومنها ما يجمع الخصال كالكلب والبعير. والهرب من المكروه محمود، والمقام عليه مذموم؛ كالذي يعتري العير السقيم وتجده في الفرس الكريم، من قلة الاكتراث وشدته.
وصبر البدن غير صبر النفس. وليس بقاء الأرواح المنعقدة تحت الضرب الشديد من اعتزام النفس، ولا يدلّ على الكرم.
وفي المثل: «ما روح فلان إلّا روح كلب» . وتقول العرب: «الضّبّ أطول شيء ذماء» . والكلب لئيم، والضبّ غير كريم.
والبازي أكرم من الصّقر وأشدّ وأكثر ثمنا، وأجمل جمالا، وأعفى صيدا، وأنبل نبلا؛ إن قبض عليه قتله، وإن لم ينحّ كندرته عن قربه أوهن نفسه. ثم بلغ من رقة طبع البازي وعتقه أنه ينقطع بردّ البازيار له إلى مسقطه من يده. والصّقر يتعلّق بسباقيه من رجل حمل بدرع فيضطرب منكّسا إلى الصّبح، ثم تجده وكأنّه لم يزل على كندرته وعلى مسقطه الذي يؤتّى له.
فليس بدني من أبدان الاحتمال فأمتعك بطول ثباته لك، ولا أثبت لك ثبات العير الكليل الحسّ، ولا أجعل الصّياح دليلا على الإقرار، فيكون ذلك أحد ما تتمتّع به، وتدرك به حاجات نفسك.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)