المنشورات

اسئلة على علم الحياة

خبرني: جعلت فداك، أيما أطول عمرا: الناس أم عير العانة أم الحية أم الضب، ومتى تستغني الحية عن الغذاء، ومتى ينتفع الضب بالنسيم، ومتى ينقطع النسر عن السفاد، وكيف صار البغل لا ينسل وهو ولد الرمكة من العير، وكذلك السّمع لا ينسل وهو ولد الضبع من الذئب، والراعبي ينسل وهو ولد الحمام من الورشان، والبختي ينسل وهو من ولد [الغراب] من الفوالج، ولم يسمع في الظلف إذا اختلفت ولم يسمع في الحافر ولا في الخف إذا اختلف. وخبرني عن الزّرافة أمن ولد الناقة أم من الضبع، وعن الشّبّوط أمن ولد البنّي من الزّجر. وخبرني: ما عنقاء مغرب وما أبوها وما أمها، وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى، ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى، ومتى تمهد لذلك الصبي، ومتى تظل بجناحها شيعة الإمام، ومتى يلقى في فيها اللجام، ومتى يباع له الكبريت الأحمر ويساق إليه جبل الماس.
وخبرني عن بناء سور الأبلة وعمن حير الحيرة، ومن أنشأ بنيان مصر، ومن صاحب كربنداذ ومدينة سمرقند. وخبرني: عن البناء الذي يضاف بالمدائن إلى سام، أهو لسام؟ وعن تدمر أهو لسليمان! وأين ملك أخاذ بن عمري من ملك نمرود الخاطيء، وأين وقع ملك ذي القرنين من ملك سليمان.
وقد كنت أطال الله بقاءك في الطول زاهدا وعن القصر راغبا، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبا للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا جعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان، والضبّاب، وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله، فإن كان هذا الأمر حقا وكان هذا العلاج نافعا وكنت له مستعملا وفيه متقدما وتراه رأيا وإن كنت عنه غنيا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأذن وأذنك أذن أبي سهيل، وأنا دقيق العنق وعنقك عنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت، وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض..!؟
جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يحدث لهما الجدّة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما وعمر طول عمرك أعمارهما ذلا بعد العز وهانا بعد الكرامة، ومالي فيك قول إلا قول الاعرابي حين ضل الطريق في الظلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جملك الله وقد جملك، أم أقول عمرك الله وقد عمرك؟ .. ولكن أقول:
وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعا، وأقول ما قلت إلا لغوا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يساكن الانسان في منزله وربعه وفي داره وموضع منقلبه إلا والانسان يفضله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والابل. وزعموا أن أقصرها أعمارا العصافير، وأن أطولها أعمارا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السفاد، وفي قصر عمر العصافير كثرة السفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويثبت هذه القضية ما يعم الخصيان من طول العمر، ويعم الفحولة من قصر العمر. وما أرى حفظك الله بهذا القياس بأسا في ظاهر الرأي وما أجده بعيدا في أغلب الظن، ولو كنت أقتل ذلك علما وأعلمه يقينا لكان أحب الأمور إلى أن يكون لي فيه سلف صدق وإمام لا يغلط، وأن أحكيه عن معدل وأسنده إلى مقنع! فقل نسمع وأشر نتبع! يعجبني- جعلت فداك- منك بغض الشهرة ودبيبك في غمار الحشوية استغناء بنفسك، وصونا لقدرك، ومعرفة بما أعطيت، وثقة بالذي أوتيت. وما أقل بحمد الله ما سبقك به إبليس، وما أيسر ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمة وناصرك عزة. وقد ذكرت الرواة في المعمرين وصنعت في ذلك أخبارا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة، ولا نقدر على ردها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النصب، وما في النصب من طول الفكرة وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكد. فافتح لبيتك بابا نسترح إليه، وأقم له علما نقف عنده. فقد علمت ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودويد بن نهد. وأنت أبقاك الله تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبرني أكذبوا أم صدقوا، أم اقتصدوا أم أسرفوا.
فأما ما رووا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسام عاد، فالشاهد على كذبهم حاضر، والدليل على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزجّة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضيق أوابهم وقصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العدمليّة، ويدل على ذلك الجرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رؤوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذا لما عنيناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادم ميلادهم وحدة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید