المنشورات
عودة الى قيمة المزاح والجد
فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذهب الناس في المزاح إلى مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة. فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد. وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان.
وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.
فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فانه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى.
وأن الجد غضب والمزح جمام. والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه. والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. والجد مألم التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا وكدوا ليستريحوا. وإن كان المزاح إنما صار معيبا، والهزل إنما صار مذموما لأن صاحبه لا يكون معرضا لمجاوزة القدر ومخاطرا بمودة الصديق. فالجد داعية الى الإفراط كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر. والتجاوز للحد قاطع بين القرينين في جميع النوعين. فقد ساواه المزاح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح قبيحا لأنه يورث الجد، فأقبح من المزح ما صير المزح قبيحا، لأن الذي يكون بعده الجد، ولم يصير الجد قبيحا لأن الذي بعده المزح، كان الجد في هذا الوزن أقبح من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد، لأن ما جعل الشيء قبيحا أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنا أحسن من الشيء.
وأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيء موضع وليس شيء يصلح في كل موضع. وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ في المباح كما شدد في المفروض، وجعل المباح جماما للقلوب وراحة للأبدان وعونا على معاودة الأعمال. فصار الإطلاق كالحظر والصبر كالشكر. وليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيء إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق الله العباد إلا بالصواب محضا وبالصدق صرفا وبمر الحق صفحا، لهلك العوام وانتقض أمر الخواص. ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولوجد في كل شيء لانتكث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلما كما يكون النسيان للسلامة سببا. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك مجرى جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، والحق أن ينضح عن بعض المزح ويحتج لجمهور الجد، وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون قال الشاعر:
«وذو باطل إن شئت ألهاك باطله»
وقال آخر:
أخو الجدّ إن يجدد فما من وتيرة ... لديه وإن يهزل يعللك باطله
وإن كانوا قد تسموا بعابس وعباس وشتيم وكالح وقاطب وحرب ومرة وصخر وحنظلة وحزن وحجر وقرد وخنزير، فقد تسموا بالضحاك والبطال وبسام وهزال ونشيط. وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال كان فيه مزاح، وكذلك لا يقال مزّاح. وكذلك الأئمة ومن هزل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. فما روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «يا أبا عمير ما فعل النّغير» وقوله: «لا تدخل الجنة عجوز» وقوله: «زوجك الذي في عينيه بياض» وقد كان علي رضي الله عنه يمزح. وقال عمر: إنا إذا خلونا كنا كأحدكم. وقد كان عمر عبوسا قطوبا. وقد كان زياد مع كلوحه وقطوبه يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا. وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه وتمرده وشدة سلطانه يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: والله إن تروني إلا شيطانا، والله لربما رأيتني وإني أقبل رجل إحداهن! فقد ذكرنا خير العالمين وجلة من خيار المسلمين وجبارا عنيدا وكافرا لعينا.
وبعد، فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة وفرع من فروع الطلاقة! وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ولم يأتنا بالانقباض والقسوة وقد أمرنا بافشاء السلام وبالبشر عند التلاقي وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي. قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك تبسما. وقالوا: كان لا يستغرق ضحكا. وقال: «دففوا على صاحبكم» .
وقال: «هذه أيام أكل وشرب وتعلل» وسمع جواري تضرب الكبر عند عائشة فلم ينكره وضحك في قيافة مجزز المدلجي ومن الاعرابي صاحب الدجال.
قد اعتذرنا من معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزح ومرة بالنسيان ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك. على اني لم ارد بمزاحك الا ضحك سنك، انظر هل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك؟ وفي الجملة إنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل فحظك أصبت ولنفسك نظرت، وإن لم تقبل فاجهل جهدك ثم أجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت، وأقول كما قال أخو بني منقر:
فما بقيا عليّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النّبال
والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بأحمد بن خلف وباسماعيل بن علي، ولئن صلت عليّ بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط لأتيهن عليك بحسة وهب الدلال! وأنا أرى لك أن تقبل العافية وترغب الى الله تعالى في طول السلامة، واحذر البغي فان مصرعه وخيم، واتق الظلم فان مرعاه وبيل، وإياك أن نتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر. ولطاهر إذا صال، ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل قدر نفسه لم يعرف قدر غيره.
وقد رعيت لك حق نبيذك وحسن شرابك وإن كان فوق العيوق ودونه بيض الأنوق، وحق توتيائك وإن بعثت به ممزوجا فكيف لو بعثت به خالصا.
وعليك بالجد فانه خير لك، ودع البيات فانه أمثل بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الإخبار أني أشد منك عقلا، وأظهر منك حزما وألطف كيدا، وأكثر علما، وأوزن حلما وأخف روحا، وأكرم عينا، وأقل غشا، وأجل قدا وأبعد غورا، وأجمل وجها، وأنصع ظرفا، وأكثر ملحا، وأنطق لسانا، وأحسن بيانا وأجهر جهارة، وأحسن إشارة. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتغر من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء. ليس عندك إلا ذلك. فلم تزاحم البحار بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ..!؟
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)